لينا خورى

الأقـنــعـــــــة …

بقلم/ لينا خورى

مرحــة‭ ‬نشيطة‭ ‬مثــل‭ ‬فراشــات‭ ‬الربيــع،‭ ‬تلك‭ ‬العاطفة‭ ‬التي‭ ‬تسيل‭ ‬كالخمرة‭ ‬المعتقة‭ ‬تسكر‭ ‬الفؤاد‭ ‬فتطرق‭ ‬طبوله‭ ‬فرحاً‭. ‬وتركض‭ ‬المشاعر‭ ‬متلهفة‭ ‬تخط‭ ‬أحرفاً‭ ‬وترسم‭ ‬كلمات،‭ ‬لتنثرها‭ ‬نغمات‭ ‬طروبـة،‭ ‬تخلق‭ ‬حيــاة‭ ‬وتميت‭ ‬حياة‭. ‬وفجأة‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬الصمت‭… ‬فتُحبَس‭ ‬وراء‭ ‬حاجز‭ ‬الأنا‭ ‬المشتتة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬نداء‭ ‬الكينونة‭ ‬وصوت‭ ‬أنانيتها‭. ‬

‭- ‬وبأي‭ ‬اسم‭ ‬يدعى‭ ‬هذا‭ ‬الــحــاجــز؟‭ ‬أهو‭ ‬الســلوك‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬البيئة‭ ‬المحيطة،‭ ‬المكانة‭ ‬المحتــرمــة؟

‭- ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬جهل‭ ‬الذات‭…‬؟‭! ‬أم‭ ‬ندعوه‭ ‬أقنعة‭ ‬الحياة؟

وكم‭ ‬هي‭ ‬كثيرة‭… ‬ساحرة‭ ‬في‭ ‬مظهرهـا،‭ ‬مبدعــة‭ ‬في‭ ‬تناسقهــا،‭ ‬لــدرجــةٍ‭ ‬أن‭ ‬الغــالبــيــة‭ ‬العـظــمــى‭ ‬من‭ ‬النــاس‭ ‬لا‭ ‬تــدركهــا‭ ‬إلا‭ ‬حقيقــة‭ ‬ذاتية‭ ‬ظهرت‭ ‬بزمنٍ‭ ‬مــاضٍ،‭ ‬وبضرورة‭ ‬حتمية‭ ‬لتغير‭ ‬طرأ‭ ‬غير‭ ‬مجرى‭ ‬حياتها‭… ‬

وتمضي‭ ‬الأيام‭ ‬ويُخلــعُ‭ ‬قنــاع‭ ‬ويــُلبــَس‭ ‬آخــــر‭… ‬والوجه‭ ‬الحقيقي‭ ‬شحب‭ ‬لونه‭ ‬ودخل‭ ‬في‭ ‬غيبوبـة‭ ‬طويــلــة،‭ ‬لا‭ ‬يصحى‭ ‬منهــا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬زمــن‭ ‬الحقيقــــة‭ ‬القصيــر‭ ‬جــداً‭… ‬زمــن‭ ‬الرحيل‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الوهــم‭ ‬والشك،‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬رابح‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬الخاسر‭! ‬عندها‭ ‬يكون‭ ‬الإحساس‭ ‬عميقاً‭ ‬حقيقياً،‭ ‬يتفجر‭ ‬حاراً‭ ‬كبــركانٍ‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬جبل‭ ‬تكلله‭ ‬الثلوج‭. ‬إحســاس‭ ‬بــالــخيــبــة‭ ‬والغباء‭ ‬في‭ ‬محاورة‭ ‬الحياة‭.‬

قليلــون‭ ‬جــــداً‭ ‬مــن‭ ‬يجيــدون‭ ‬محــاورة‭ ‬الحيـــاة‭ ‬والرقص‭ ‬على‭ ‬إيقاعها،‭ ‬فهم‭ ‬من‭ ‬لامسوا‭ ‬بأنــاملهم‭ ‬الأثير‭… ‬وكتبوا‭ ‬على‭ ‬شرائط‭ ‬قوس‭ ‬قزح‭ ‬الزاهيـة‭ ‬أغنـيــات‭ ‬الأشجــار،‭ ‬وحكايــا‭ ‬الســنونــو‭ ‬المســافر‭  ‬والأسرار‭ ‬الزرقاء‭ ‬للنهر‭ ‬المتراقص‭ ‬فوق‭ ‬جمرات‭ ‬الأرض‭.‬

‭- ‬فأي‭ ‬معنى‭ ‬للفرح‭ ‬إذا‭ ‬لــم‭ ‬يــوقــف‭ ‬جــاذبيــتــنــا‭ ‬الأرضية‭ ‬ويجعلنا‭ ‬نطير‭ ‬كريشة‭ ‬حمامة‭ ‬زاجلة؟‭!‬

‭- ‬وكيف‭ ‬تُــلــون‭ ‬رمــــادية‭ ‬الحــزن‭ ‬إن‭ ‬لــم‭ ‬تُــــدرَك‭ ‬ضَرورَتــه،‭ ‬ومــن‭ ‬ثم‭ ‬امتلاك‭ ‬الرؤية‭ ‬الشفافة‭ ‬بعـد‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬نفق‭ ‬الألم؟‭ ‬

‭- ‬كيف‭ ‬تُؤَجَج‭ ‬شُعلة‭ ‬الحب‭ ‬لتبقى‭ ‬أبدية،‭ ‬فَتُشعِل‭ ‬القناديــل‭ ‬المطفئــة،‭ ‬وتنــور‭ ‬الزوايــا‭ ‬المُعتمة؟

‭- ‬كيــف‭ ‬للغضــب‭ ‬أن‭ ‬يَبنــي‭ ‬ويُصــلــح‭ ‬ولا‭ ‬يَــهــدم‭ ‬ويَجرح؟

‭- ‬كيــف‭ ‬لليــأس‭ ‬أن‭ ‬يُــبــــدع‭ ‬ويُــولــّد‭ ‬الأمل‭ ‬ببداية‭ ‬جديدة؟

‭- ‬كيــف‭ ‬نــدرك‭ ‬معنـى‭ ‬الإيجــاب‭ ‬والسلب،‭ ‬القبح‭ ‬والجمال،‭ ‬الرفض‭ ‬والقبول،‭ ‬الخطأ‭ ‬والصواب،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬نــراهم‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الآخرين‭ ‬وردود‭ ‬أفعالهم‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مــرآة‭ ‬لأفكــارنــا‭ ‬وتصــرفــاتنــا‭.‬

وتبقى‭ ‬الصورة‭ ‬مشــوهـة‭ ‬إذا‭ ‬لــم‭ ‬نخلــع‭ ‬أقنعتنــا‭  ‬التــي‭ ‬هــي‭ ‬حاجــة‭ ‬ضعفنــا‭ ‬أمــام‭ ‬التعبــيــر‭ ‬عــن‭ ‬مشاعرنا‭ ‬الحقيقية،‭ ‬والبوح‭ ‬بها‭ ‬بكل‭ ‬صدق‭. ‬هذه‭ ‬الأقنعة‭ ‬تَلبَس‭ ‬الإنسان‭ ‬فــلا‭ ‬يفكر‭ ‬ولا‭ ‬يتصــرف‭ ‬إلا‭ ‬بحسب‭ ‬قالبها‭ ‬الــذي‭ ‬حــبس‭ ‬ذاته‭ ‬فيه،‭ ‬فموقف‭ ‬غضب،‭ ‬حب،‭ ‬اختيار‭… ‬يكون‭ ‬رد‭ ‬الفعــل‭ ‬عليــه‭ ‬غامض،‭ ‬وربمــا‭ ‬انفعال‭ ‬زائد‭ ‬أو‭ ‬مشاعر‭ ‬جيــاشــة‭  ‬ولكنها‭ ‬مخنوقة‭ ‬وراء‭ ‬قنــاع‭ ‬عــدم‭ ‬الثقة‭ ‬والتردد‭ ‬والخــوف،‭ ‬أو‭ ‬قــرار‭ ‬أســيــر‭ ‬قنــاع‭ ‬اجتمـاعي‭ ‬أو‭ ‬مادي‭. ‬فتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬إحساس‭ ‬بعــدم‭ ‬الرضــى‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬وتفكير‭ ‬حائر‭ ‬تائه،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مرفأ‭ ‬أمان،‭ ‬وينتفي‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحياة‭ ‬ويسيطر‭ ‬شعور‭ ‬الرتابة‭ ‬واللا‭ ‬معنى‭ .‬

فتحرير‭ ‬العاطفة‭ ‬منذ‭ ‬الدقات‭ ‬الأولى‭ ‬للوعي،‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬كنوزٍ‭ ‬خالدة‭ ‬ساحرة‭ ‬في‭ ‬فائدتها‭. ‬فالبكاء‭ ‬ليس‭ ‬ضعفاً،‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬تجــاه‭ ‬الآخر‭ ‬ليــس‭ ‬عيباً‭ ‬أو‭ ‬تقليــل‭ ‬من‭ ‬الشأن،‭ ‬ورفض‭ ‬موقف‭ ‬أو‭ ‬رأي‭ ‬ليس‭ ‬فوضوية‭ ‬أو‭ ‬تمرداً،‭ ‬وإبداء‭ ‬الرأي‭ ‬والإفصاح‭ ‬بدون‭ ‬تكلف‭ ‬عن‭ ‬حاجتنا‭ ‬وآلامنا‭ ‬ليس‭ ‬تطاولاً‭ ‬ولا‭ ‬تطفلاً‭.‬

الحرية‭ ‬لا‭ ‬تعتــرف‭ ‬بالقيــود‭ ‬وأولــها‭ ‬قيود‭ ‬الذات‭. ‬فالعصفــور‭ ‬المــدّجــن‭ ‬في‭ ‬قفــص‭ ‬منــذ‭ ‬خروجه‭ ‬مــن‭ ‬البيـضــة‭ ‬لــن‭ ‬يصبــح‭ ‬حــراً‭ ‬وإن‭ ‬أطلــق‭ ‬مــن‭ ‬قفصه،‭ ‬لأنه‭ ‬سيعود‭ ‬إليه‭ ‬ثانية‭ ‬فلم‭ ‬يعــرف‭ ‬غيــره‭  ‬والسماء‭ ‬الواسعة‭ ‬تخيفه‭. ‬كذلك‭ ‬الإنسان‭ ‬المُدّجن‭ ‬العواطف‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬رقم‭ ‬في‭ ‬عــدادٍ‭ ‬بشري،‭ ‬لأنه‭ ‬سينهي‭ ‬زيــارتــه‭ ‬لهذه‭ ‬الحيــاة‭ ‬بكلمة‭ ‬لا‭ ‬أدري‭…‬

فالاعتراف‭ ‬بـأن‭ ‬العاطفة‭ ‬ليست‭ ‬عيباً‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬الوقود‭ ‬الــذي‭ ‬يحــرك‭ ‬العقــل،‭ ‬حينهــا‭ ‬لا‭ ‬يكــون‭ ‬التقليــد‭ ‬وتلقــي‭ ‬أفكار‭ ‬الآخرين‭ ‬إبداعا‭. ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬العنــف‭ ‬تعبيــراً‭ ‬عن‭ ‬الرفض،‭ ‬ولا‭ ‬القتل‭ ‬وانتهــاك‭ ‬حق‭ ‬الآخر‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬ولا‭ ‬الشذوذ‭ ‬علاقة‭ ‬طبيعية‭ ‬لوضع‭ ‬اجتماعي‭ ‬مضطرب،‭ ‬ولا‭ ‬السرقة‭ ‬وسيلة‭ ‬لتأمين‭ ‬حاجة،‭ ‬ولا‭ ‬الحســد‭ ‬وإلحــاق‭ ‬الأذى‭ ‬بالآخــر‭ ‬طريــق‭ ‬لصعود‭ ‬النجاح‭.‬

فكبــت‭ ‬العاطفــة‭ ‬هــو‭ ‬ســجــن‭ ‬مظلــم‭ ‬وربما‭ ‬هو‭ ‬الجحيــم‭ ‬في‭ ‬أســاطيرنا‭ ‬العتيقة‭ ‬والعــذاب‭ ‬في‭ ‬كتبنا‭ ‬المضيئة‭ ‬بالنور‭ ‬السرمدي‭.‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى