رسائل الذاكرة رسائل متحررة من أصابع الزمن، فلا أوراق مصفرّة ولا حروف فقدت ألوانها، حرة من حدث أسره الزمان أو المكان، هي تظهر فجأة عندما تفتح عليها نافذة من نظرة عين، أو انفراج لأي باب من المشاعر. علوم الميتافيزيق تقول: "لا يخلد من الانسان إلا ذاكرته". حكايات الطفولة، هي أول خطوط المعرفة لملامح الحياة القادمة، تنقش على جدار الشعور في سراديب ذاكرة بيضاء كقماش الكتان النقي للوحة توضع عليها ألوان الرسم لأول مرة، وكلما مرَّ الزمن وزادت خبرة الإنسان بالحياة زاد لوناً جديداً عليها لتكون أقرب لواقعه. فلا يبقى من الحكاية إلا جوهرها الذي يفرض مكانه في الحدث المناسب له. مَنْ لم يسمع بحكاية المارد حبيس قمقم منسي لا تاريخ ولا مكان معروف له؟؟ المارد الحبيس لدهور من الزمن، الانتظار زاده اليومي والحرية حلمه ولو كانت ثمناً لحياته، وبما أنه لا يعرف من الحرية إلا الخيال الذي يزوره كلما سمع طنين قمقمه إن لامسته موجة مرحة، أو صدمته بحصة عنيدة، أو حضنه دفء الشمس وبريق كرات الضوء بين مرح أوراق الشجر... حديثه صمت، والتحدث إليه ارتداد الصوت على جدران قمقمه. لا نعلم سجنه باختيار أم اجبار! لكن ما تقاربه مراكب الذاكرة بما تحمله من صور بين ضفتي جوهر الحكاية والواقع الحالي، هو في ميناء التواصل الاجتماعي... فرغم ما قدمته هذه الوسيلة من صورة مضخمة عن تقارب البشر من بعضهم، إلا أنها زادت الهوة في غربة الإنسان عن خاصة تميزه عن كل الكائنات، وهي التواصل مع الأخر بأسلوب البحث عن المشترك والمختلف، من خلال بساطة الحدث قبل تعقيده، وهو أمر ليس بسهل أو بسيط، ويتم بضغط زر بحث عن صديق بمعايير معينة مناسبة لرؤية ذاتية، فمَن من الناس يمتلك قبل دخول التكنولوجيا مئات بل الألوف من الأصدقاء؟؟ أليس هو تأطير لدرجة التصغير لقيمة الصداقة؟ مَنْ يفقه بكل العلوم ويمتلك الحكم الصائب بكل القضايا المؤثرة ومنها مصيري في حياة البشر؟ مَنْ يستطيع أن ينتقد بكلامٍ بذيء يفيض كراهية لرأي أو قضية عرضها شخص ما في تجمع اجتماعي أو ثقافي أو سياسي بدون أن توجه له تهمة انتهاك حق الآخر في التعبير عن رأيه، والذم الأخلاقي بحق الآخرين؟ وسائل التواصل الاجتماعي غنية بالفائدة في تحقيق التواصل بين الناس في كسر قسرية المسافات البعيدة، في المعرفة كوجبة سريعة ولكنها بحاجة لمعالجة لهضمها وقبولها عقلياً ومنطقياً، في التبادل الحر للأفكار والمشاركة بالمعلومة المفيدة والفكرة الغنية... في كشف جوانب مخفية من شخصيات عامة لها حضورها ودورها، فالبعض يدّعي الحرية واحترام رأي جمهوره وصاحب مبادئ راقية، ولكنه لا يتقبل أي رأي في تعليق يكشف عن ثغرة فيما يدعيه، والبعض الآخر قدم أكثر بكثير مما يظن جمهوره من كرمٍ معرفي وعطاء فكري. ولكن أن تتحول إلى وسيلة لانفلاتٍ من المعايير الأخلاقية، كتوجيه شتائم وأحكام بدافع غريزي أو تفكير عنيد بدائي ضيق... حينها تكون كحلبة لممارسة القتل، ولكنه قتل وهمي، قتل للأخر بتوجيه الاتهامات أو شتائم أو استهتار وسخرية من آلم آخر مرفوض تحت عنوان عنصري أو متطرف، أحكام تطلق بدون معرفة أو إدراك بالحدث، مصدرها الوحيد هو الغاية الذاتية للفرد المتواصل مع الحدث. الفعل يبدأ بالعقل، يبدأ وينتهي بالفكر ومن ثم يولد إلى الواقع، فالبعض يكره ويرفض ولكنه لا يملك الشجاعة أو تمنعه اللباقة الأخلاقية لإظهارها للآخرين، في وسيلة التواصل يرمي بكل كرهه ومخلفات ظنونه المريضة في تعليقات على أي موضوع يمس جزء مما ينقصه. والبعض الآخر شوفانيته لا تتحمل أي رأي أو نقد مخالف لرأيه، ولا يمكن أن يتقبل بالواقع مواجهة فكر مخالف له، فيمارس القتل والدفن الوهمي، بتوجيه حكم اقصاء لمخالفه ويضع جدار يمنع وصول صوته إليه. الحرية مسؤولية كبيرة، وأولها إدراك الإنسان حدود حريته في احترام حرية غيره، ولا يقبل أن يمارس على الآخر ما يرفضه هو. ومَنْ يدعي أن انفلات الغرائز والنوازع هو نوع من الحرية في التعبير وتفريغ النفس من السلبيات، فهو لا يجانب الحقيقة... فالحضارة لم تنشأ إلا عندما هذب الإنسان غرائزه وكبّل بالعقل نوازعه. فإذا كانت وسائل التواصل هي العالم الحر الوهمي الذي يعيشه الإنسان الحالي، فهل تبادل مع المارد المكان؟ وحبسَ فكره وحرية تواصله وراء شاشة صغيرة. يتلقى ويفكر ويتفاعل حسب رغبة وغاية من يحرك فانوسه؟