وردة بين صفحات كتاب سرق لونها الزمن، أو ربما تآلفت مع أوراق الكتاب وكلماته المرسومة فتمازجا معاً وتبادلا الألوان، وفجأة ترتوي أوراقها وتعود نضرة في الذاكرة النائمة. نظرة تقع على مجموعة رسائل مربوطة بشريط أزرق كلون السماء السعيدة، فتجمد العيون ويسافر الفكر الواعي إلى عالمٍ حنون يعذبه الشوق إلى لقاءٍ مجهول الموعد كزيارة القدر... موسيقى تصدح ناعمةً رقيقة، فترتوي الروح كأوراق الشجر عندما يقبلها الفجر بقطرات الندى الكريستالية. لمسة من السحر، تثير المشاعر الغافية في خدر الذاكرة المحمومة بصخب الحياة ... فكم يستمر هذا الإحساس؟! ثوانٍ، دقائق، أجزاء من الساعة، ولمرهفي الحس يوم كامل... ثم يعود إلى مكانه المنسي ينتظر بشغفٍ محرضٍ ما لإيقاظه، وهذا المحرض متوقف على الصدفة لدى كثيرٍ من الناس، بسبب الانشغال الدائم بمتطلبات الحياة. لذلك في أغلب دول العالم خصص يوم في السنة ليكون جرس إيقاظ للذاكرة والمشاعر المنسيّة، دعي يوم الحب أو عيد الحب. في الماضي السحيق كان هناك آلهة للحب يتضرع إليها الإنسان ليخصّب حياته وأرضه مثل أفروديت، عشتار، كيوبيد. ومع النضوج الثقافي والفلسفي للإنسان اتخذ الحب الشامل اسم الله. والآن في الزمن الحاضر نحتفل بعيد الحب بتقزيمه كثيراً ليتسع معنا في وردة التوليب الحمراء التي يقدمها المحب لمحبوبه، رمزاً لمشاعره الرقيقة الأنيقة تجاه بعضهما. ولكن هل يذبل هذا التأجج العاطفي بذبول الوردة الحمراء؟ وهل يخمد وهج الشوق بذوبان الشمعة التي رافقتهما في لقائهما الموعود؟ بالتأكيد كل ذلك سيكون واقعاً، إذا كانت النظرة إلى الحب كحدث زمني يتأرجح في مجال معين من العمر، أو كخطوة رومانسية متجردة عن الواقع، للولوج إلى عالمٍ بعيد ترسم المشاعر أبعاده. أما إذا كان هناك نضوج في الرؤية، على أن الحب عنوان الوجود والحياة، وبأنه معجزة متوائمة مع معجزة الخلق، عندها يتحرر الحب من قوالبه الضيقة التي وضعناه فيها، فينطلق حراً كالضوء يلامس وجه الخليقة جمعاء. فالحب لا يجد ذاته إلا بالآخر، ولا ينمو ويزدهر إلا بالتروية المتبادلة، ولا يوجد مقياس زماني أو مكاني يحدد حجمه، ولكن من المستطاع عدّ المرات التي تردد فيها كلمة أحب بتلقائية وعفوية بدون التركيز على معناها العميق، ولو فكرنا لبرهة من الزمن، لأيقنّا أن الحب هو الهواء الذي نتنفسه والروح التي تزكي النفس البشرية، هو وجود حي يكتشف الإنسان من خلاله أنه يعيش في العالم كله، ويتفاعل معه ويتغنى بأفراحه، ويحلق على أجنحة أحلامه. ففيه تنتفي الحواجز بين البشر، وبه يسعى الإنسان لبناء وطنٍ جميل لأبنائه وللأجيال التي تليه، أما الموت فليس هو الرقاد المتخشب؛ وإنما أن يحيا الإنسان بلا حب يرفض الانتماء إلى هذا العالم، ويرى الحياة دورة نمطية لا معنى لها وأنه يمارس حياته كنوع من الانتحار البطيء. لنضيء شمعة بطول الأيام للحب الذي يجعلنا نتصالح مع ذاتنا، فبه نصبح غيوم تشرين الحبلى بالغيث، عبق الياسمين في أمسيات الغسق الخرافية، دموع الثلوج الذائبة من قبلات الشمس الحارة، رغيف خبزٍ بيد جائع، عكاز ضرير، أنامل مثّالٍ تفجر نهراً من حجر الصوان، قلم رصاص بين أصابع طفلٍ يكتب: أحب أبي، أحب أمي، أحب وطني، فأنا إنسان. • الإهداء لكل إنسان مازال يعتقد أن القلب منبع الحب فهو لا يشيخ، وإن عاكس المنطق العلمي بأن القلوب مضخات ويوماً ما ينال منها الصدأ.