مقالات رأى مختلفة

طـوق النجـاة – قصة قصيرة

بقلم/ بيشوى طلعت

‭ ‬سيف‭ ‬هو‭ ‬الأبن‭ ‬الوحيد‭ ‬للعمدة‭ ‬هلال‭ ‬طاحون،‭ ‬أنجبه‭ ‬بعد‭ ‬عشرون‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬زواجه‭ ‬من‭ ‬سامية‭ ‬ابنة‭ ‬عمه‭ ‬سالم‭ ‬طاحون‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬العمدة‭ ‬قبل‭ ‬هلال‭. ‬كعادة‭ ‬القري‭ ‬في‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬كان‭ ‬منصب‭ ‬العمودية‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬أكبر‭ ‬عائلات‭ ‬القرية‭ ‬وأغناها‭ ‬وأكثرها‭ ‬تجبراً‭ ‬وبأساً‭ ‬وفي‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭ ‬أشدها‭ ‬افترائاً‭ ‬وفتكاً‭. ‬جاء‭ ‬سيف‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬بفرحة‭ ‬غامرة‭ ‬واستقبله‭ ‬أبويه‭ ‬بحفاوة‭ ‬بالغة‭ ‬فهو‭ ‬ابن‭ ‬واحد‭ ‬وحيد‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬السماء‭ ‬عليهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬التحفت‭ ‬قلوبهم‭ ‬برداء‭ ‬اليأس‭ ‬وأظلمت‭ ‬عيونهم‭ ‬واشتعلت‭ ‬رؤوسهم‭ ‬بالشيب،‭ ‬ولم‭ ‬يخلف‭ ‬الطفل‭ ‬الوليد‭ ‬ظن‭ ‬والده‭ ‬وأعمامه‭ ‬وأخواله‭ ‬فقد‭ ‬كبر‭ ‬وترعرع‭ ‬وترعرعت‭ ‬بداخله‭ ‬نبتة‭ ‬الزعامة‭ ‬وعشق‭ ‬الفروسية‭ ‬والسلاح‭ ‬بمختلف‭ ‬أنواعه‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬المدية‭ ‬قرن‭ ‬الغزال‭ ‬وحتى‭ ‬الكلاشينكوف‭ ‬والجرينوف‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬ولعه‭ ‬الدائم‭ ‬وعشقه‭ ‬الجنوني‭ ‬كان‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الخيل‭ ‬والنساء،‭ ‬برع‭ ‬الفتي‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بأنواع‭ ‬الخيول‭ ‬وأنسابها‭ ‬وألوانها‭ ‬وطفراتها‭ ‬وإزدادت‭ ‬خبرته‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬بارعاً‭ ‬في‭ ‬الركوب‭ ‬والامتطاء‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬العشرون‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬كان‭ ‬فارساً‭ ‬وخيالاً‭ ‬لا‭ ‬يشق‭ ‬له‭ ‬غبار‭. ‬أخبره‭ ‬أحد‭ ‬أصدقاءه‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المهرة‭ ‬البيضاء‭ ‬ذات‭ ‬النسب‭ ‬العربي‭ ‬الأصيل،‭ ‬لم‭ ‬يتواني‭ ‬عن‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الشرقية‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الليلة‭ ‬ومع‭ ‬بزوغ‭ ‬النهار‭ ‬كان‭ ‬سيف‭ ‬داخل‭ ‬المزرعة،‭ ‬المهرة‭ ‬بيضاء‭ ‬وجسدها‭ ‬مقسم‭ ‬ومرسوم‭ ‬ولها‭ ‬ذلك‭ ‬العرف‭ ‬الأبيض‭ ‬المصفر‭ ‬الذى‭ ‬تلمع‭ ‬خصلاته‭ ‬تحت‭ ‬بريق‭ ‬شمس‭ ‬الضحى‭ ‬وأيضا‭ ‬الذيل‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬يضاهي‭ ‬العرف‭ ‬في‭ ‬بياضه‭ ‬وإصفراره‭ ‬ولمعانه،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬مهرة‭ ‬من‭ ‬مهور‭ ‬الجنة‭. ‬ألح‭ ‬على‭ ‬أبوه‭ ‬العمدة‭ ‬في‭ ‬المجيء‭ ‬ومعه‭ ‬الثمن‭ ‬كاملاً،‭ ‬خمسون‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬بالتمام‭. ‬حاول‭ ‬هلال‭ ‬أن‭ ‬يثنيه‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬متحججاً‭ ‬بأن‭ ‬الأسطبل‭ ‬ممتليء‭ ‬بالمهور‭ ‬والجياد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شكل‭ ‬ولون،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬سيف‭ ‬لم‭ ‬يرضخ‭ ‬ولم‭ ‬يتراجع‭ ‬وتمسك‭ ‬بالمهرة‭ ‬الجميلة‭ ‬وأصر‭ ‬على‭ ‬شرائها‭ ‬مهما‭ ‬كلفه‭ ‬الأمر،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬هلال‭ ‬بداً‭ ‬من‭ ‬الرضوخ‭ ‬أمام‭ ‬أبنه‭ ‬كعادته‭ ‬الدائمة‭ ‬معه‭ ‬منذ‭ ‬عشرون‭ ‬عاماً‭. ‬عاد‭ ‬سيف‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬مزهواً‭ ‬يقود‭ ‬السيارة‭ ‬الربع‭ ‬نقل‭ ‬وبجانبه‭ ‬هلال‭ ‬العمدة‭ ‬يتميز‭ ‬غيظاً‭ ‬لأنه‭ ‬خسر‭ ‬خمسون‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عيون‭ ‬هذه‭ ‬البيضاء‭ ‬الجميلة‭ ‬ذات‭ ‬الشعر‭ ‬الأصفر‭ ‬التي‭ ‬تقبع‭ ‬في‭ ‬الصندوق‭ ‬الخلفي‭ ‬للسيارة‭ .‬

هجر‭ ‬النوم‭ ‬أجفان‭ ‬سيف‭ ‬وأيضاً‭ ‬أبوه‭ ‬العمدة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الليلة،‭ ‬لكن‭ ‬الفرق‭ ‬كان‭ ‬شاسعاً‭ ‬بين‭ ‬أسباب‭ ‬الهجر‭ ‬عند‭  ‬كليهما،‭ ‬فقد‭ ‬استعصي‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬سيف‭ ‬لفرحته‭ ‬بمهرته‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬أسماها‭ ‬رغدة‭ ‬وكانت‭ ‬ساعات‭ ‬الليل‭ ‬طويلة‭ ‬وثقيلة‭ ‬عليه‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتعجل‭ ‬بزوغ‭ ‬الفجر‭ ‬ليخرج‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬متباهياً‭ ‬بمهرته‭ ‬الخواجايه،‭ ‬هكذا‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬رآها،‭ ‬أما‭ ‬هلال‭ ‬فقد‭ ‬استعصي‭ ‬عليه‭ ‬النوم‭ ‬لضجره‭ ‬وحنقه‭ ‬من‭ ‬جموح‭ ‬ولده‭ ‬وميله‭ ‬الجارف‭ ‬نحو‭ ‬الملذات‭ ‬والفتونة‭ ‬والاستعراض‭. ‬تقلب‭ ‬هلال‭ ‬فى‭ ‬فرشته‭ ‬بعنف‭ ‬مما‭ ‬أيقظ‭ ‬زوجته‭ ‬سامية،‭ ‬أمتدت‭ ‬يدها‭ ‬إلى‭ ‬المصباح‭ ‬فيسطعت‭ ‬الغرفة‭ ‬بنور‭ ‬خافت‭ ‬وألتفتت‭ ‬إليه‭: ‬ماذا‭ ‬بك؟‭ ‬زفر‭ ‬متأففاً‭: ‬لا‭ ‬شيء‭ .‬

سامية‭: ‬أنت‭ ‬تعبد‭ ‬المال،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الغضب‭ ‬لأنك‭ ‬دفعت‭ ‬خمسون‭ ‬ألف‭ ‬جنيه؟‭!‬

انتفض‭ ‬هلال‭ ‬وجلس‭ ‬على‭ ‬الفراش‭: ‬وهل‭ ‬هذه‭ ‬هى‭ ‬نزوته‭ ‬الأخيرة؟‭!‬

سامية‭: ‬أنسيت‭ ‬أنه‭ ‬أخرة‭ ‬صبرنا؟‭!‬

هلال‭: ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬تحديداً‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نحسن‭ ‬تربيته‭ ‬وتهذيبه‭ .‬

سامية‭: ‬وهل‭ ‬ينقصه‭ ‬الأدب؟‭!‬

يضحك‭ ‬بسخرية‭: ‬لا‭ ‬العفو‭ … ‬بأمارة‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬في‭ ‬القرية،‭ ‬مشاكل‭ ‬وعراك‭ ‬وسعي‭ ‬خلف‭ ‬النساء‭ ‬والفتيات،‭ ‬يطارد‭ ‬واحدة‭ ‬ويداعب‭ ‬أخري،‭ ‬أتركيني‭ ‬ولا‭ ‬تفتحي‭ ‬جرحاً‭ ‬دفيناً‭ ‬في‭ ‬قلبي،‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬الأنين‭.‬

مدت‭ ‬يدها‭ ‬بعصبية‭ ‬إلى‭ ‬المصباح‭ ‬فأطفأته‭ ‬وسحبت‭ ‬الغطاء‭ ‬إلى‭ ‬وجهها‭ ‬مستعجلة‭ ‬النوم‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬غضب‭ ‬زوجها‭ ‬وإنزعاجه‭ ‬لفساد‭ ‬وحيده‭ .‬

أنطلقت‭ ‬جوقة‭ ‬العصافير‭ ‬والديكه‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬معلنة‭ ‬مولد‭ ‬صباح‭ ‬جديد،‭ ‬قفز‭ ‬سيف‭ ‬من‭ ‬فراشه،‭ ‬أخذ‭ ‬حماماً‭ ‬ساخناً‭ ‬وتناول‭ ‬الفطار‭ ‬سريعاً‭ ‬وأرتدي‭ ‬جلبابه‭ ‬الفاخر‭ ‬الذي‭ ‬يعتز‭ ‬به‭ ‬كثيراً‭ ‬ولا‭ ‬يرتديه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬السعيدة،‭ ‬صفف‭ ‬شعره‭ ‬بعناية‭ ‬وتعطر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬العطر‭ ‬الباهظ‭ ‬الثمن‭ ‬ثم‭ ‬تلفح‭ ‬بذلك‭ ‬الشال‭ ‬الحريري‭ ‬المذهب‭. ‬نزل‭ ‬إلى‭ ‬الأسطبل‭ ‬ليجد‭ ‬السايس‭ ‬قد‭ ‬أعد‭ ‬له‭ ‬المهرة‭ ‬رغدة‭ ‬ووضع‭ ‬عليها‭ ‬ذلك‭ ‬السرج‭ ‬الأسود‭ ‬الملوكي‭ ‬المبطن‭ ‬بالقطيفة‭ ‬السوداء‭ ‬اللامعة‭ ‬والمرصع‭ ‬بالحلي‭ ‬المذهبة،‭ ‬امتطي‭ ‬صهوتها‭ ‬وخرج‭ ‬إلى‭ ‬الغيطان‭ ‬المتشابكة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬البصر‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬ملكيتها‭ ‬إلى‭ ‬والدة‭ ‬العمدة‭ ‬هلال‭ ‬وأعمامه‭ ‬وأخواله،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬أراضي‭ ‬القرية‭ ‬في‭ ‬حوزة‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة‭ ‬بفروعها‭ ‬المختلفة‭ ‬الأنساب‭ ‬والأصهار‭ .‬

ينطلق‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬فيشق‭ ‬العباب‭ ‬بينما‭ ‬تتابعه‭ ‬عيون‭ ‬الفلاحين‭ ‬من‭ ‬أهالى‭ ‬القرية‭ ‬المسرعين‭ ‬إلى‭ ‬أعمالهم،‭ ‬المهرة‭ ‬رشيقه‭ ‬وتجري‭ ‬في‭ ‬سرعة‭ ‬ومهارة‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬جمالها‭ ‬الفتان‭ ‬يتجسد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العرف‭ ‬الأصفر‭ ‬اللامع‭ ‬الذي‭ ‬يهفهف‭ ‬بقوة‭ ‬أمام‭ ‬وجه‭ ‬ذلك‭ ‬الخيال‭ ‬المتجاسر‭ ‬الذي‭ ‬يمتطيها‭ ‬ويعدو‭ ‬بها‭ ‬مثيراً‭ ‬خلفه‭ ‬عاصفة‭ ‬ترابية‭. ‬ظل‭ ‬النهار‭ ‬كله‭ ‬يصول‭ ‬ويجول‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬القرية‭ ‬مستعرضاً‭ ‬مهاراته‭ ‬الفروسية،‭ ‬عندما‭ ‬انتصف‭ ‬النهار‭ ‬كان‭ ‬سيف‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬مراده‭ ‬وحقق‭ ‬غايته‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هدفه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬يجرب‭ ‬مهرته‭ ‬الجديدة‭ ‬ولكن‭ ‬الأهم‭ ‬أن‭ ‬يراه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬القرية‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الصنف‭ ‬الناعم‭. ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬تحديداً‭ ‬هي‭ ‬الجمهور‭ ‬المستهدف‭ ‬لهذا‭ ‬الخيال‭ ‬النزق‭ .‬

رآها‭ ‬عائدة‭ ‬من‭ ‬مدرستها‭ ‬ترتدي‭ ‬ملابس‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬أخفاء‭ ‬جمالها‭ ‬الفاتن‭ ‬وصدرها‭ ‬المكتنز‭. ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬الجسر‭ ‬عندما‭ ‬رآها‭ ‬تخطو‭ ‬نحو‭ ‬الممر‭ ‬الطويل‭ ‬بين‭ ‬الحقول‭ ‬،‭ ‬متوسطة‭ ‬الطول‭ ‬ذات‭ ‬قوم‭ ‬ملفوف،‭ ‬اقترب‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬رآها‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬فشهق‭ ‬لفرط‭ ‬جمالها‭ ‬الذي‭ ‬أسكره‭. ‬ألتفتت‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬عندما‭ ‬سمعت‭ ‬صوت‭ ‬حوافر‭ ‬الحصان‭ ‬تقترب‭ ‬منها‭ ‬فلم‭ ‬يتملك‭ ‬نفسه‭ ‬عندما‭ ‬صدمة‭ ‬ذلك‭ ‬الطوفان‭ ‬من‭ ‬الضياء‭ ‬المتدفق‭ ‬من‭ ‬وجهها‭ .‬

جرحها‭ ‬بنظراته‭ ‬الحادة‭ ‬كأنصال‭ ‬الخناجر‭ ‬فتحولت‭ ‬نظرتها‭ ‬المستغربة‭ ‬إلى‭ ‬نظرة‭ ‬لوم‭ ‬وتقريع‭ ‬وعادت‭ ‬لتنظر‭ ‬إلى‭ ‬طريقها‭ ‬مستأنفة‭ ‬سيرها‭ ‬نحو‭ ‬منزلها‭.‬‭ ‬صرخ‭ ‬مفتوناً‭: ‬أهذا‭ ‬الجمال‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬قريتنا‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرفه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم؟‭ ‬أسرعت‭ ‬في‭ ‬خطوها‭ ‬مبتعدة‭ ‬وهو‭ ‬يتبعها‭ ‬ممتطياً‭ ‬مهرته‭ ‬الخواجايه‭ ‬ويشبع‭ ‬عينيه‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬الكستنائي‭ ‬المذهب‭ ‬الذي‭ ‬عقدته‭ ‬في‭ ‬ذيل‭ ‬حصان‭ ‬يتدفق‭ ‬ناعماً‭ ‬حتى‭ ‬يقارب‭ ‬نهاية‭ ‬جزعها‭ ‬اللدن‭. ‬انعطفت‭ ‬نحو‭ ‬اليمين‭ ‬وسارت‭ ‬خطوات‭ ‬قليلة‭ ‬ثم‭ ‬دلفت‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬بيت‭ ‬عتيق‭ ‬شبه‭ ‬متهدم‭ ‬يوحى‭ ‬مظهره‭ ‬بفقر‭ ‬قاطنيه‭. ‬ترجل‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الخواجايه‭ ‬واستوقف‭ ‬أحد‭ ‬الفلاحين‭ ‬العابرين‭ ‬الذي‭ ‬عرفه‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬وأنطلق‭ ‬في‭ ‬الترحيب‭ ‬به‭. ‬استوقفه‭ ‬منتهراً‭ ‬وسأله‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬وأصحابه‭. ‬أخبره‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬يقطنه‭ ‬دميان‭ ‬الغلبان‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬فلاحاً‭ ‬أجيراً‭ ‬باليومية‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬العمدة‭ ‬أبوة‭ ‬وزوجته‭ ‬سارة‭ ‬التي‭ ‬تبيع‭ ‬الجبن‭ ‬القريش‭ ‬الذي‭ ‬تصنعه‭ ‬بنفسها‭ ‬من‭ ‬حليب‭ ‬الجاموسة‭ ‬اليتيمة‭ ‬التي‭ ‬يمتلكونها‭ ‬كما‭ ‬تبيع‭ ‬أيضاً‭ ‬البيض‭ ‬القليل‭ ‬الذي‭ ‬تجمعه‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الدجاج‭ ‬الذي‭ ‬تربيه‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬أغدق‭ ‬الرجل‭ ‬بالمعلومات‭ ‬في‭ ‬كرم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحتاج‭ ‬سيف‭ ‬إلى‭ ‬استنطاقة‭ ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬يغدق؟‭! ‬فهذا‭ ‬سيف‭ ‬ابن‭ ‬العمدة‭ ‬،والفلاح‭ ‬اللئيم‭ ‬يعرفه‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يخمن‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬سيف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يستوقفه‭ ‬ويسأله‭ ‬عن‭ ‬البيت‭ ‬وساكنيه‭ ‬فقد‭ ‬رآه‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬وهو‭ ‬يتبع‭ ‬الفتاة‭ ‬متمخطراً‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬مهرته‭ ‬البيضاء‭ .‬

أخرج‭ ‬سيف‭ ‬من‭ ‬حافظته‭ ‬ورقة‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬الخمسون‭ ‬جنيهاً‭ ‬ومد‭ ‬يده‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬أنحنى‭ ‬ليلتقطها‭ ‬مقبلاً‭ ‬لليد‭ ‬المانحة‭ ‬ثم‭ ‬ابتسم‭ ‬في‭ ‬مكر‭ ‬فبانت‭ ‬أسنانه‭ ‬الصفراء‭ ‬المتهدمة‭ ‬التي‭ ‬أسودت‭ ‬من‭ ‬تدخين‭ ‬الحشيش‭ ‬وخلافه‭. ‬أضاف‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬أهم‭ ‬معلومة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بيت‭ ‬القصيد،‭ ‬دميان‭ ‬وزوجته‭ ‬يكدحان‭ ‬لجمع‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أبنتهم‭ ‬الوحيده‭  ‬ماريا‭. ‬دميان‭ ‬لم‭ ‬يرزق‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬إلا‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬الجميلة‭ ‬وهى‭ ‬متفوقة‭ ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬وأبوها‭ ‬يعيش‭ ‬ويكدح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أمل‭ ‬واحد‭ ‬أن‭ ‬يراها‭ ‬طبيبة‭ ‬أو‭ ‬مهندسة‭ . ‬

ابتسم‭ ‬سيف‭ ‬وسأله‭ :  ‬هي‭ ‬في‭ ‬ثانوي؟

أجاب‭ ‬الرجل‭ ‬وشبح‭ ‬الابتسامة‭ ‬لم‭ ‬يفارق‭ ‬وجهه‭: ‬أولي‭ ‬ثانوي‭ ‬يا‭ ‬باشا‭ . ‬

صرفه‭ ‬سيف‭ ‬وامتطي‭ ‬ظهر‭ ‬الجواجايه‭ ‬وأنطلق‭ ‬كالسهم‭ ‬إلى‭ ‬والده‭ ‬العمدة،‭ ‬دخل‭ ‬عليه‭ ‬المندرة‭ ‬وأصابه‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬بسهم‭ ‬ناري‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتزوج‭ ‬ماريا‭ ‬ابنة‭ ‬دميان؟‭!‬

العمدة‭: ‬أنت‭ ‬اتخبلت‭ … ‬دول‭ ‬نصاري؟

سيف‭: ‬وإيه‭ ‬يعني‭ … ‬الشرع‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ !‬

العمدة‭ ‬صائحاً‭: ‬وهى‭ ‬البنات‭ ‬خفيت‭ … ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬قدامك‭ ‬الحريم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شكل‭ ‬ولون‭ !‬

صاح‭ ‬سيف‭ ‬مهتاجاً‭: ‬أنا‭ ‬أريد‭ ‬ماريا‭ ‬هي‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنثي‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭!‬

زعق‭ ‬العمدة‭ ‬ليرتفع‭ ‬صوته‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بالدار‭: ‬أهذه‭ ‬مهرة‭ ‬خواجايه‭ ‬تريدها‭ ‬هي‭ ‬الأخري؟‭!‬

سيف‭: ‬هي‭ ‬كذلك‭ ‬بالضبط‭ .‬

اندفعت‭ ‬سامية‭ ‬زوجة‭ ‬العمدة‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬المندرة‭ ‬صائحة‭: ‬ماذا‭ ‬حدث؟‭! ‬

صاح‭ ‬العمدة‭ ‬في‭ ‬وجهها‭ ‬والشرر‭ ‬يتطاير‭ ‬من‭ ‬عينيه‭: ‬اسألي‭ ‬المحروس‭ ‬ابنك‭ !‬

يصرخ‭ ‬سيف‭ ‬كالمجنون‭: ‬ماريا‭ ‬بيضاء‭ ‬بياض‭ ‬الشمع‭ ‬وعيناها‭ ‬نصال‭ ‬تذبح‭ ‬وتدمي‭ … ‬أريدها‭ ‬يا‭ ‬أمي‭ … ‬زوجوني‭ ‬بها‭ ‬وإلا‭ ‬أرتكبت‭ ‬جناية‭.‬

ضربت‭ ‬المرأة‭ ‬صدرها‭ ‬بيدها‭ ‬وشهقت‭: ‬ماريا‭ ‬بنت‭ ‬دميان‭ ‬وسارة،‭ ‬يا‭ ‬ولدى‭ ‬دول‭ ‬خدامين‭ ‬عندنا‭!!.‬

لم‭ ‬تفلح‭ ‬توسلات‭ ‬العمدة‭ ‬وزوجته‭ ‬في‭ ‬إثناءه‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭  ‬و‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬أرسل‭ ‬العمدة‭ ‬إلى‭ ‬شيخ‭ ‬البلد‭ ‬وأخبره‭ ‬بالموضوع‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬ينتصف‭ ‬النهار‭ ‬كان‭ ‬شيخ‭ ‬الغفر‭ ‬ومعه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الغفر‭ ‬قد‭ ‬قبض‭ ‬على‭ ‬دميان‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬واقتاده‭ ‬إلى‭ ‬دواره‭ ‬العمدة‭. ‬وقف‭ ‬الرجل‭ ‬أمام‭ ‬العمدة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يفحص‭ ‬هيئته‭ ‬الرثة‭ ‬وجلبابه‭ ‬الذي‭ ‬بهت‭ ‬لونه‭ ‬وحذائه‭ ‬القديم‭ ‬المتسخ‭ ‬وهو‭ ‬يتقزز‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬كيف‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يناسب‭ ‬هذا‭ ‬الفلاح‭ ‬الفقير،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬قلبه‭ ‬يتقد‭ ‬ناراً‭ ‬والغيظ‭ ‬يأكل‭ ‬كبده‭ ‬أن‭ ‬وحيده‭ ‬الذي‭ ‬يرجوه‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬يورده‭ ‬المهالك‭ ‬والأزمات‭ . ‬

تحدث‭ ‬العمدة‭ ‬بجفاء‭: ‬أنا‭ ‬قررت‭ ‬أصاهرك‭ ‬يا‭ ‬دميان‭ !‬

دميان‭: ‬تصاهرني‭ … ‬العفو‭ ‬يا‭ ‬حضرة‭ ‬العمدة؟

العمدة‭: ‬هو‭ ‬كدة‭ … ‬جهز‭ ‬ماريا‭ ‬ابنتك‭ … ‬الفرح‭ ‬والدخلة‭ ‬غداً‭ !‬

دميان‭: ‬يا‭ ‬عمدة‭ ‬أنت‭ ‬تكبرني‭ ‬في‭ ‬العمر‭ !‬

جلجلت‭ ‬ضحكة‭ ‬العمدة‭ ‬وضحك‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬شيخ‭ ‬البلد‭ ‬وشيخ‭ ‬الغفر‭ ‬والخفراء‭: ‬يا‭ ‬رجل‭ ‬يا‭ ‬مخبول‭ … ‬هل‭ ‬تظننى‭ ‬أنا‭ ‬العريس؟‭ !‬

دميان‭: ‬من‭ ‬إذن؟‭ ‬

العمدة‭: ‬ولدي‭ ‬سيف

دميان‭: ‬ربنا‭ ‬يخليه‭ ‬ويفرحك‭ ‬بيه‭ ‬يا‭ ‬جناب‭ ‬العمدة،‭ ‬لكننا‭ ‬غلابة‭ !‬

العمدة‭: ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يهم‭ … ‬أنا‭ ‬سوف‭ ‬أتكفل‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ !‬

دميان‭ ‬باكياً‭: ‬أرجوك‭ ‬يا‭ ‬عمدة‭ … ‬إلا‭ ‬ابنتي‭ !‬

العمدة‭: ‬أبني‭ ‬يريدها‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬غيرها‭ !‬

سقط‭ ‬دميان‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬وارتفع‭ ‬صوت‭ ‬قبلاته‭ ‬التي‭ ‬غمرت‭ ‬حذاء‭ ‬العمدة‭ :  ‬أذبحنى‭ ‬يا‭ ‬عمدة‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬تذبح‭ ‬شرفي‭ !‬

أنحنى‭ ‬شيخ‭ ‬الغفر‭ ‬ليلتقط‭ ‬دميان‭ ‬الباكي‭ ‬ويرفعه‭ ‬ويلطمه‭ ‬بقوة‭ ‬صارخاً‭ : ‬

أخرس‭ ‬يا‭ ‬كلب‭ … ‬أنت‭ ‬تطول‭ ‬أن‭ ‬العمدة‭ ‬يكون‭ ‬نسيبك‭ ‬وجد‭ ‬أحفادك

العمدة‭ ‬محتداً‭: ‬كفاية‭ … ‬أوصولوه‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬ولا‭ ‬تنسوا‭ ‬أن‭ ‬تضعوا‭ ‬أثنين‭ ‬من‭ ‬الغفر‭ ‬حراسة‭ ‬علي‭ ‬البيت‭. ‬جذب‭ ‬الغفير‭ ‬دميان‭ ‬خارجاً‭ ‬به‭ ‬وعند‭ ‬العتبة‭ ‬جاء‭ ‬صوت‭ ‬العمدة‭ ‬مؤكداً‭: ‬جهز‭ ‬البنت‭ ‬يا‭ ‬دميان‭ ‬لا‭ ‬تنسي‭ ‬الدخلة‭ ‬غداً‭ . ‬

دخل‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬باكياً‭ ‬ومعفراً،‭ ‬رأته‭ ‬زوجته‭ ‬ففزعت‭ ‬وعندما‭ ‬أخبرها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬وعرفت‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬العمدة‭ ‬افترشت‭ ‬الأرض‭ ‬باكية‭ ‬وكفاها‭ ‬يجمعان‭ ‬تراب‭ ‬الفرن‭ ‬الرمادي‭ ‬ويرتفعان‭ ‬إلى‭ ‬رأسها‭ ‬لتعفر‭ ‬وجهها‭ ‬بالتراب،‭ ‬خرجت‭ ‬ماريا‭ ‬من‭ ‬غرفتها‭ ‬وفزعت‭ ‬عندما‭ ‬رأت‭ ‬أبوها‭ ‬وأمها‭ ‬هكذا‭ .‬

عرفت‭ ‬من‭ ‬والدها‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬العمدة‭ ‬وأبنه‭ ‬وأخبرت‭ ‬أمها‭ ‬أن‭ ‬الفتي‭ ‬تبعها‭ ‬أمس‭ ‬على‭ ‬جواده‭ ‬وكان‭ ‬يأكلها‭ ‬بعينيه‭ ‬النهمتين‭. ‬احتضن‭ ‬دميان‭ ‬وحيدته‭ ‬وزوجته‭ ‬سارة‭ ‬وعزف‭ ‬الثلاثة‭ ‬معاً‭ ‬كونشرتو‭ ‬البكاء‭ ‬الحزين‭ ‬ذو‭ ‬النشيج‭ ‬المتقطع‭ ‬الذي‭ ‬يتحد‭ ‬مع‭ ‬أنين‭ ‬الألم‭ ‬لتخرج‭ ‬مقطوعة‭ ‬موسيقية‭ ‬من‭ ‬صراخ‭ ‬المقهورين‭ ‬الباكي‭ ‬المرتفع‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ .‬

أسدل‭ ‬المساء‭ ‬ستائره‭ ‬على‭ ‬القرية‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬الليل‭ ‬ليجثم‭ ‬فوق‭ ‬البيوت‭ ‬والغيطان‭ ‬فارداً‭ ‬عباءته‭ ‬المعتمة‭ ‬السواد‭ ‬على‭ ‬أرجاء‭ ‬القرية‭. ‬كان‭ ‬بيت‭ ‬العمدة‭ ‬يغص‭ ‬بالغناء‭ ‬والطرب‭ ‬والرقص‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬الأنوار‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬العمال‭ ‬بتركيبها‭ ‬تضفي‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬البهجة‭ ‬المنذرة‭ ‬بحدث‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الحلول‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬وهذا‭ ‬السرادق‭ ‬الفخم‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬الرجال‭ ‬بنصبه‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬أمام‭ ‬البيت،‭ ‬وانطلقت‭ ‬البنادق‭ ‬والطبنجات‭ ‬والأسلحة‭ ‬الآلية‭ ‬مختلفة‭ ‬الأنواع‭ ‬والأعيرة‭ ‬تدوى‭ ‬طلقاتها‭ ‬وتلعلع‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬القرية،‭ ‬وكانت‭ ‬وتيرة‭ ‬البهجة‭ ‬تزداد‭ ‬وصخب‭ ‬الفرح‭ ‬يرتفع‭ ‬كلما‭ ‬تقدم‭ ‬الليل‭ ‬وزاد‭ ‬عمرة‭ ‬ساعة‭.‬‭ ‬أصرت‭ ‬سامية‭ ‬زوجة‭ ‬العمدة‭ ‬وأم‭ ‬العريس‭ ‬أن‭ ‬تحمم‭ ‬وحيدها‭ ‬بنفسها‭ ‬كعادة‭ ‬أهل‭ ‬الصعيد‭ ‬والريف،‭ ‬ألبست‭ ‬وحيدها‭ ‬وقرة‭ ‬عينها‭ ‬جلباباً‭ ‬ناصع‭ ‬البياض‭ ‬وصففت‭ ‬شعره‭ ‬بنفسها‭ ‬وطيبته‭ ‬بأغلى‭ ‬العطور‭ ‬وأغرقت‭ ‬جلبابه‭ ‬وملابسه‭ ‬الداخلية‭ ‬بالعطر‭ ‬وكانت‭ ‬تسوي‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وهي‭ ‬تغمره‭ ‬بالقبلات‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬وعنقه‭ ‬وصدره‭ ‬وكأنها‭ ‬عشيقته‭ ‬وليست‭ ‬أمه‭. ‬فرشت‭ ‬له‭ ‬الغرفة‭ ‬أبيض‭ ‬في‭ ‬أبيض‭ ‬وأضاءت‭ ‬له‭ ‬شموع‭ ‬بيضاء‭ ‬كبيرة‭ ‬الحجم‭ ‬و‭ ‬أصرت‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬مبكراً‭ ‬حتى‭ ‬يأخذ‭ ‬قدراً‭ ‬كافياً‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ .‬

وفي‭ ‬بيت‭ ‬دميان‭ ‬كان‭ ‬الحزن‭ ‬والسواد،‭ ‬الرجل‭ ‬الحائر‭ ‬الخائر‭ ‬القوى‭ ‬يرتمي‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬باكياً‭ ‬منتفضاً‭ ‬وزوجته‭ ‬تحتضن‭ ‬أبنتها‭ ‬ويموتان‭ ‬رعباً‭ ‬وحزناً‭ ‬ولا‭ ‬مهرب‭ ‬ولا‭ ‬مفر،‭ ‬فالعمدة‭ ‬وأبنه‭ ‬قد‭ ‬احتاطا‭ ‬ووضع‭ ‬العمدة‭ ‬الخفراء‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يهرب‭ ‬الرجل‭ ‬وابنته‭. ‬و‭ ‬بينما‭ ‬يرتفع‭ ‬ضجيج‭ ‬الاحتفال‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬العمدة‭ ‬وتترامي‭ ‬إلى‭ ‬أسماعهم‭ ‬أصوات‭ ‬الطرب‭ ‬والصخب‭ ‬وتصم‭ ‬أذانهم‭ ‬أصوات‭ ‬الأعيرة‭ ‬النارية‭ ‬كان‭ ‬يزداد‭ ‬ذلك‭ ‬الهلع‭ ‬نهشاً‭ ‬في‭ ‬أكبادهم‭ .‬

تتحدث‭ ‬الأم‭ ‬إلى‭ ‬زوجها‭  : ‬ما‭ ‬العمل‭ ‬يا‭ ‬دميان؟

رفع‭ ‬الرجل‭ ‬وجهه‭ ‬إليها‭ ‬فرأت‭ ‬كبدة‭ ‬وقلبه‭ ‬وأحشاءه‭ ‬الدامية‭ ‬قد‭ ‬تركت‭ ‬جسده‭ ‬كله‭ ‬وارتفعت‭ ‬إلى‭ ‬عينيه‭: ‬نصلي‭ ‬يا‭ ‬أم‭ ‬ماريا‭ … ‬معندناش‭ ‬غير‭ ‬الصلاة‭ .‬

‭ ‬ركع‭ ‬دميان‭ ‬على‭ ‬ركبتيه‭ ‬أمام‭ ‬أيقونة‭ ‬كبيرة‭ ‬للسيد‭ ‬المسيح‭ ‬وبجوارها‭ ‬أيقونة‭ ‬للسيدة‭ ‬العذراء‭ ‬وخلفه‭ ‬ركعت‭ ‬سارة‭ ‬وأبنتها‭ ‬ماريا‭ ‬متجاورتين‭ ‬وارتفع‭ ‬ستة‭ ‬أيادي‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬تتضرع‭ ‬وصرخت‭ ‬الحناجر‭ ‬باكية‭: ‬‭ “‬يارب‭ ‬مالناس‭ ‬غيرك‭ … ‬إحنا‭ ‬غلابة‭ ‬وأنت‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الكل‭ … ‬إنقذنا‭ ‬يارب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شر‭ ‬وشبه‭ ‬شر،‭ ‬مش‭ ‬أنت‭ ‬وعدت‭ ‬إنك‭ ‬ما‭ ‬تسيبناش‭ … ‬مش‭ ‬أنت‭ ‬قلت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬شقاء‭ ‬المساكين‭ ‬وتنهد‭ ‬البائسين‭ ‬الأن‭ ‬أقوم‭ ‬وأصنع‭ ‬الخلاص‭ ‬‭”‬‭  ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬يمضي‭ ‬وكلما‭ ‬اقترب‭ ‬الليل‭ ‬نحو‭ ‬لحظة‭ ‬مصرعه‭ ‬تحت‭ ‬شعاع‭ ‬الفجر‭ ‬الوليد‭ .. ‬كلما‭ ‬ازدادت‭ ‬لجة‭ ‬صلواتهم‭ ‬وتضرعاتهم‭ ‬واتسعت‭ ‬رقعة‭ ‬تلك‭ ‬البركة‭ ‬من‭ ‬الدموع‭ ‬المنهمرة‭ ‬من‭ ‬عيونهم‭ ‬حتى‭ ‬بللت‭ ‬ملابسهم‭ ‬وبللت‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬يركعون‭ ‬عليها،‭ ‬غلبهم‭ ‬التعب‭ ‬فسقط‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬نوبة‭ ‬نوم‭ ‬قصيرة‭ ‬قرب‭ ‬الفجر،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نوماً‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬إغماءاً‭ ‬قصيراً‭ ‬أصاب‭ ‬الأجساد‭ ‬التي‭ ‬أضنيت‭ ‬وجاهدت‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬حارة‭ ‬لا‭ ‬تنقطع‭ ‬ترتفع‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬كرائحة‭ ‬بخور‭ .‬

أبيضت‭ ‬السماء‭ ‬عندما‭ ‬تسرب‭ ‬إليها‭ ‬ضوء‭ ‬الفجر‭ ‬وأسودت‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬العمدة‭ ‬وزوجته‭ ‬وسوف‭ ‬تظل‭ ‬سوداء‭ ‬حتي‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬عند‭ ‬شق‭ ‬الفجر‭ ‬باكر‭ ‬فى‭ ‬صباح‭ ‬الأحد‭ ‬،‭  ‬صراخ‭ ‬مدوي‭ ‬يشق‭ ‬عنان‭ ‬السماء،‭ ‬استيقظ‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬الصراخ‭ ‬المكلوم،‭ ‬راح‭ ‬الفلاحون‭ ‬يتبادلون‭ ‬السؤال‭ ‬كعادتهم‭ ‬حتى‭ ‬تبرع‭ ‬أحدهم‭ ‬مجيباً‭ : ‬الصراخ‭ ‬جاي‭ ‬من‭ ‬بحري‭ ‬البلد‭ … ‬من‭ ‬عند‭ ‬دوار‭ ‬العمدة‭ !! ‬

ظن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬العمدة‭ ‬قد‭ ‬توفي‭ ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬كانت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تحتملها‭ ‬عقولهم‭ ‬البسيطة‭. ‬في‭ ‬بيت‭ ‬العمدة‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬نوح‭ ‬وبكاء‭ ‬وعويل‭ ‬كثير،‭ ‬زوجة‭ ‬العمدة‭ ‬تبكي‭ ‬ملتاعة‭ ‬على‭ ‬وحيدها‭ ‬وهى‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تتعزي‭ ‬لأن‭ ‬أبنها‭ ‬العريس‭ ‬ليس‭ ‬بموجود،‭ ‬سقط‭ ‬العمدة‭ ‬على‭ ‬جثة‭ ‬نجله‭ ‬الوحيدة‭ ‬كان‭ ‬يبكي‭ ‬ويصرخ‭ : ‬سيف‭ .. ‬سيف‭ .. ‬يا‭ ‬سيف‭ .. ‬يا‭ ‬حبيبي‭ … ‬أنت‭ ‬عريس‭ ‬النهارده‭ … ‬كلمني‭ ‬يا‭ ‬سيف‭ ‬أنا‭ ‬أبوك‭ ‬يا‭ ‬ولدي‭. ‬اندفع‭  ‬الرجال‭ ‬نحو‭ ‬العمدة‭ ‬وتعاونوا‭ ‬على‭ ‬حمله‭ ‬عنوة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬جثمان‭ ‬الفتي،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬سامية‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬ساقطة‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فشلت‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬رفعها،‭ ‬وعلا‭ ‬صوت‭ ‬بكائها‭ ‬المكتوى‭ ‬بنار‭ ‬بركان‭ ‬لا‭ ‬ينطفئ‭ ‬ولن‭ ‬ينطفئ،‭ ‬وكانت‭ ‬تصرخ‭ ‬مرددة‭ ‬جملة‭ ‬واحدة‭ ‬لا‭ ‬تغيرها‭ : ‬

‭” ‬يا‭ ‬ريتك‭ ‬يا‭ ‬ولدى‭ ‬ما‭ ‬فتنك‭ ‬جمال‭ ‬ماريا‭ ‬،‭ ‬يمكن‭ ‬كنت‭ ‬عشت‭ ‬و‭ ‬بقيت‭ ‬ليا‭ … ‬‭” ‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى