مقالات رأى مختلفة

علمني الدكتـور زويــل

بقلم/ د.شريف عرفة

في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬قدم‭ ‬الفنان‭ ‬سمير‭ ‬صبري‭ ‬برنامج‭ ‬منوعات‭ ‬يسمى‭ ‬هذا‭ ‬المساء‭ ‬،‭ ‬بقاعة‭ ‬تتناثر‭ ‬فيها‭ ‬طاولات‭ ‬يجلس‭ ‬حولها‭ ‬مشاهير‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬مختلفة،‭ ‬ليطوف‭ ‬بينهم‭ ‬و‭ ‬يحاورهم‭.‬‮ ‬

و‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬الحلقات،‭ ‬استضاف‭ ‬شابا‭ ‬نحيفا‭ ‬يرتدي‭ ‬سلسلة‭ -‬حسبما‭ ‬أذكر‭- ‬و‭ ‬يهوى‭ ‬تقليد‭ ‬رقصات‭ ‬مايكل‭ ‬جاكسون،‭ ‬و‭ ‬كان‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬مستخف‭ ‬بالشاب‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬يفعل،‭ ‬لأنه‭ ‬استضاف‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬الدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬زويل‭ -‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬نوبل‭ ‬بعد‭- ‬كي‭ ‬يظهر‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬العلماء‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬اصطلح‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬”شباب‭ ‬اليومين‭ ‬دول”‭.‬‮ ‬

طلب‭ ‬سمير‭ ‬صبري‭ ‬من‭ ‬الدكتور‭ ‬زويل‭ ‬أن‭ ‬يعلق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬هذا‭ ‬الشاب،‭ ‬و‭ ‬أن‭ ‬ينصح‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬يضيعون‭ ‬وقتهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الجاد‭.‬‮ ‬

قال‭ ‬زويل‭ ‬شيئا‭ ‬فكرت‭ ‬فيه‭ ‬طويلا‭ ‬و‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬عالقا‭ ‬بذهني‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬‮ ‬

قال‭ ‬بما‭ ‬معناه‭ ‬إن‭ ‬ليس‭ ‬مطلوبا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬علماء‭. ‬و‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬موهوبا‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬الرقص‭ ‬الاستعراضي‭ ‬فعليه‭ ‬أن‭ ‬ينمي‭ ‬هذه‭ ‬الموهبة‭ ‬بالتدريب‭ ‬و‭ ‬الاحتراف‭ ‬كي‭ ‬ينجح‭ ‬فيها،‭ ‬فالفن‭ ‬شيء‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬العلم‭.‬‮ ‬

‮ ‬أدهشتني‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ -‬كما‭ ‬أدهشت‭ ‬سمير‭ ‬صبري‭ ‬و‭ ‬الشاب‭ ‬نفسه‭ ‬فيما‭ ‬يبدو‭- ‬و‭ ‬تركت‭ ‬أثرا‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬نفسي‭. ‬فقد‭ ‬جعلتني‭ – ‬و‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭- ‬ألتفت‭ ‬لفكرة‭ ‬التعددية‭ ‬و‭ ‬التنوع‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.. ‬و‭ ‬مدى‭ ‬عبثية‭ ‬السعى‭ ‬لتنميط‭ ‬الناس‭ ‬و‭ ‬جعلهم‭ ‬يتطابقون‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬واحد‭.‬

حقا‭.. ‬ليس‭ ‬مطلوبا‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬كل‭ ‬الشباب‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالطب‭ ‬أو‭ ‬الهندسة‭ ‬أو‭ ‬الصيدلة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الثقافة‭ ‬الشائعة،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬ميسر‭ ‬لما‭ ‬خلق‭ ‬له‭.. ‬افعل‭ ‬ما‭ ‬تبرع‭ ‬فيه‭ ‬و‭ ‬تحبه‭ ‬و‭ ‬تشعر‭ ‬أنك‭ ‬ستكون‭ ‬ناجحا‭ ‬فيه،‭ ‬فالإداري‭ ‬الناجح‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الطبيب‭ ‬الفاشل،‭ ‬و‭ ‬المجتمع‭ ‬الصحي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يمارس‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬مهنته‭ ‬ببراعة‭.‬

ليس‭ ‬مطلوبا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬يتبعوا‭ ‬تيارا‭ ‬محددا‭ ‬أو‭ ‬طيفا‭ ‬سياسيا‭ ‬واحدا،‭ ‬فاحترام‭ ‬التعددية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يخلق‭ ‬ثقافة‭ ‬ديموقراطية‭ ‬حقيقية،‭ ‬و‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأكثر‭ ‬تعددية‭ ‬و‭ ‬انفتاحا‭ ‬هي‭ -‬غالبا‭- ‬الأكثر‭ ‬حراكا‭ ‬و‭ ‬تقدما‭ ‬و‭ ‬تسامحا‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭.‬

قلت‭ ‬لنفسي‭: ‬حين‭ ‬تختار‭ ‬لنفسك‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬مناسب‭ ‬لغيرك‭ ‬بالضرورة‭.. ‬و‭ ‬حين‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رأيا‭ ‬صحيحا،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬ملزما‭ ‬لأحد‭ ‬غيرك‭ ‬بالضرورة‭..‬لا‭ ‬تكن‭ ‬كشخص‭ ‬ارتدى‭ ‬نظارة‭ ‬طبية‭ ‬و‭ ‬وجد‭ ‬أنه‭ ‬يرى‭ ‬بها‭ ‬جيدا،‭ ‬فسعى‭ ‬جاهدا‭ ‬ليجعل‭ ‬الآخرين‭ ‬حوله‭ ‬يرتدونها‭.‬

من‭ ‬حقك‭ ‬أن‭ ‬تعتنق‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة‭ ‬معين،‭ ‬و‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬غيرك‭ ‬أن‭ ‬يتبنى‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة‭ ‬مختلف‭.. ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تعطه‭ ‬هذا‭ ‬الحق،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬ضمنيا‭ ‬الإقرار‭ ‬بحقه‭ ‬في‭ ‬منعك‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬حياتك‭ ‬كما‭ ‬تريد،‭ ‬لو‭ ‬تفوق‭ ‬عليك‭ ‬في‭ ‬القوة‭.. ‬لتصبح‭ ‬الحياة‭ -‬كما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬البدائية‭- ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الصراعات‭ ‬الهمجية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭!‬‮ ‬

تخيل‭ ‬معي‭ ‬شخصين،‭ ‬يعتقد‭ ‬أحدهما‭ ‬أن‭ ‬البطيخ‭ ‬لذيذ،‭ ‬بينما‭ ‬يعتقد‭ ‬الآخر‭ ‬أن‭ ‬الموز‭ ‬ألذ‭. ‬فراحا‭ ‬يتصارعان‭ ‬و‭ ‬يتجادلان‭ ‬ليثبت‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬صواب‭!‬‮ ‬‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬العبثي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬حولنا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭..‬‮ ‬

ما‭ ‬يناسبك‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يناسب‭ ‬غيرك‭.. ‬و‭ ‬النصيحة‭ ‬التي‭ ‬تنفعك‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تنفع‭ ‬غيرك‭.. ‬لأن‭ ‬حياتك‭ ‬غير‭ ‬حياة‭ ‬الآخرين،‭ ‬و‭ ‬تحضرك‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف‭. ‬‮  ‬

ربما‭ ‬كانت‭ ‬عبارة‭ ‬الدكتور‭ ‬زويل‭ ‬بسيطة‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الدلالات،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تأثيرها‭ ‬عندي‭ ‬كان‭ ‬ككرة‭ ‬الثلج،‭ ‬كالبذرة‭ ‬التي‭ ‬انغرست‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬لتكبر‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬و‭ ‬تزدهر‭ ‬و‭ ‬تصبح‭ ‬احتراما‭ ‬لقيمة‭ ‬التعددية‭ ‬و‭ ‬احترام‭ ‬الاختلاف‭.. ‬و‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬كتاباتي‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬أجاهد‭ ‬نفسي‭ ‬عليه‭ ‬فعلا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬الدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬زويل‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬منذ‭ ‬ساعات،‭ ‬تاركا‭ ‬أثرا‭ ‬عظيما‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬و‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬نفوسنا‭ ‬جميعا‭.‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى