من الغريب أن يتحدث الإنسان إلى مرآة !!! . ينقل لها أفكاره، يناقشها في معتقداته، يجادلها في مبادئه، يبثها شجونه يغني لها سعادته يلملم أمامها أشلاء أحلامه ويشيد صروح طموحاته. من الغريب أن يحدث ذلك إلا لمن هجر الواقع واعتزل في ذاته. ولكنه ليس من الغريب أن تكون المرآة صفة لإنسان يخرج من ردائه الجسدي ليتمازج مع الآخر بشفافية الروح، بحرية ضربات القلب، بشوق الذكريات وراء الأبواب، بصدق ضحكات الطفولة، بعودة الوجوه المنسية، بروعة النسيان في دوامة الألم. إنه الصديق º الوجه الخفي لكل إنسان يحترم وجوده ويسعى لبلورة معناه، كم نحن بأمس الحاجة لتلك العاطفة الشفافة والوعي الناضج بمعنى الإنسانية . كم نحن بحاجة إلى الصديق الذي يجسد تلك المعاني خاصة في زمن المبادئ الفردية وبرودة الوحدة،كم نحن بحاجة إلى الصداقة التي لُفظت كما تلفظ العين الجسم الغريب، الصداقة التي أصبحت كالصور الفوتوغرافية القديمة، كالمحنطات في متحف المومياء. ـ كيف لردائها أن يدفئ برودة القلب وقد انتشرت فيه رقع الحسد والغيرة ؟ ـ كيف لها أن تحلق عالياً وبحرية كسرب الطيور السعيدة وقد سدّ طريقها شوك المنفعة وزؤان الانتهازية؟ فالصداقة هي علاقة اجتماعية راقية. هي وجه من وجوه الحرية لأنها تحرر الفرد من أسر ذاته ورواسبه الموروثة ومن ثم تكامله مع ذات أخرى. هي محاورة بين الروحانية والمادية، بين الظاهر والباطن. فلو سئل إنسان ما، كمّ من الأصدقاء المخلصين لديه بكل ما توحيه كلمة الإخلاص من معنى؟ لأجاب بابتسامة هادئة خجولة واحد أو اثنين أو ربما أجاب لا أحد …!!! . استند في إجابته تلك على تعريف ضمني للإخلاص ويندرج تحته تعريف الصداقة º أما إجابته واحد أو اثنين هي رد طبيعي لأنه من الصعب لإنسان تتصارع في داخله أهواء الطبيعة البشرية أن يحسم هذا الصراع بعطاء بلا حدود للآخر وبتكامل مبدع بينهما إلا لعدد قليل من الأشخاص. ولكن إجابة لا أحد فتلك هي الحالة الشاذة، التي بدأت تتسلل بين البشر كثعبانٍ تغير زيها، حيناً بانعدام الصدق، وآخر بصعوبة الحياة، وغالباً بادعاء أن الحياة بدأت تأخذ النمط العملي فلا وقت لاكتشاف الآخرين والتعامل معهم كما نحب أن نُعامل، وانطلقت الشعارات المعقلنة "لا صديق لك إلا نفسك(لمصلحة أولا) الخ، ورويداً رويداً تصبح الصداقة شعار لقيمة مجهولة التعريف كلوحة فسيفسائية مفقودة الأجزاء،فالصداقة هي جسر منسوج من وشائج الروح ورهافة المشاعر يصل الإنسان مع آخر لا تربطهما إلا روح واحدة لوجوه متعددة. هي اللحن الذي لا تطاله الرتابة بأصابعها اللزجة، هي الطبيعة الدائمة الربيع المتفنن الألوان ونادر الأزهار.هي عطر وردة سرية لم تكتشف بعد،هي مسئولية ذاتية لم تقرّها قوانين،الصداقة لا تعترف بالحدود ولا بالمسافات ولا يقيدها زمان ولا مكان، فمن يزرع بذور حب الصداقة يزرع حب الله. لأنها ستبقى الحمامة التي تحمل على أجنحتها أريج الحياة المخبأ في كرات الضياء فتنشره نوراً لكل من فتح لها نوافذ قلبه.