مقالات رأى مختلفة

كُن مثل راكب القطار

بقلم/ رائد نبيل

بدأت‭ ‬رحلتى‭ ‬مع‭ ‬القطار‭ ‬منذ‭ ‬طفولتى،‭ ‬كانت‭ ‬بشكل‭ ‬متباعد وقتها‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬القطار‭ ‬غير‭ ‬الذى‭ ‬يعرفه‭ ‬جميعنا‭ ‬بإنه‭ ‬وسيلة‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬النقل،‭ ‬ولكنه‭ ‬أصبح‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬كالصديق‭ ‬حينما‭ ‬صار‭ ‬وسيلة‭ ‬الإنتقال‭ ‬المفضلة‭ ‬لى‭ ‬فى‭ ‬السفر‭ ‬كل‭ ‬اسبوع‭ ‬فى‭ ‬مرحلتى‭ ‬الجامعية‭ ‬وحتى‭ ‬وقتنا‭ ‬هذا‭ .. ‬ربما‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬إنه‭ ‬يُستخدم‭ ‬لساعات‭ ‬معدودة‭ ‬ولم‭ ‬يُستفاد‭ ‬منه‭ ‬غير‭ ‬كونه‭ ‬وسيلة‭ ‬إنتقال‭ ..‬

إنه‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬يأخذك‭ ‬فى‭ ‬رحلة‭ ‬ممتعة‭ ‬تتعلم‭ ‬فيها‭ ‬أشياء‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تدركها‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬أخر،‭ ‬والأغرب‭ ‬إنك‭ ‬فى‭ ‬القطار‭ ‬تتعلمها‭ ‬مجانا‭ .. ‬تتعلمها‭ ‬حين‭ ‬تجلس‭ ‬بجوار‭ ‬إمراة‭ ‬عجوز‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬بزيارة‭ ‬لإبنتها‭ ‬المتزوجة‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬محافظات‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬تحادثك‭ ‬مثل‭ ‬ابنها‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬حبها.

أخبرتنى‭ ‬كيف‭ ‬انتظرت‭ ‬حبيبها‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬ومعاناتها‭ ‬مع‭ ‬أسرتها‭ ‬والتى‭ ‬أرادت‭ ‬إجبارها‭ ‬على‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬إبن‭ ‬العم‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬المتقدمين‭ ‬لزواجها‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬قصّت‭ ‬لي‭ ‬سنوات‭ ‬البكاء‭ ‬والإنتظار‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬حبيبها‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬الذى‭ ‬التحق‭ ‬بالجيش‭ ‬المصرى‭ ‬قبل‭ ‬حرب‭ ‬1967م‭ ‬بشهور‭ ‬قليلة،‭ ‬وقفت‭ ‬أمام‭ ‬الجميع‭ ‬تنتظره،‭ ‬تنتظره‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعلم‭ ‬ماذا‭ ‬سيحدث‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الإنتظار،‭ ‬حتى‭ ‬أنهى‭ ‬فترة‭ ‬جيشة‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1974م‭ ‬وتزوجها،‭ ‬حقيقة‭ ‬علمتنى‭ ‬الوفاء‭ ‬والحب‭ ‬فى‭ ‬أبهي‭ ‬صوره‭ … ‬تتعلمها‭ ‬أيضا‭ ‬حين‭ ‬تُجالس‭ ‬شخص‭ ‬وقور،‭ ‬يُحدثك‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬كفاح‭ ‬طويلة،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬سفره‭ ‬فى‭ ‬اواخر‭ ‬الثمانينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضى‭ ‬إلى‭ ‬العراق،‭ ‬ورحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬هناك،‭ ‬وكيف‭ ‬ظل‭ ‬شهور‭ ‬بلا‭ ‬عمل‭ ‬فى‭ ‬بلاد‭ ‬الغربة،‭ ‬وكانت‭ ‬قمة‭ ‬الفرح‭ ‬عندما‭ ‬أخبره‭ ‬حارس‭ ‬عقار‭ ‬بإنه‭ ‬يحتاج‭ ‬لعامل‭ ‬يقوم‭ ‬برفع‭ ‬الرمال‭ ‬لمبنى‭ ‬تحت‭ ‬الإنشاء،‭ ‬ظل‭ ‬هكذا‭ ‬حتى‭ ‬أعطاه‭ ‬الله‭ ‬الكثير،‭ ‬قصّ‭ ‬لى‭ ‬رحلة‭ ‬كفاح‭ ‬طويلة‭ ‬مليئة‭ ‬بالصبر،‭ ‬وفى‭ ‬النهاية‭ ‬تسأله،‭ ‬ما‭ ‬هوعملك‭ ‬الآن؟

يُجيبك‭ ‬بإبتسامة‭ ‬بسيطة‭ ‬ويقول‭ ‬مدير‭ ‬بنك‭ ‬التعمير‭ ‬والإسكان‭ ‬بأسيوط‭.‬

أتعلم‭ ‬يا‭ ‬عزيزى،‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الكثيرين‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬التحدث‭ ‬عنهم‭ ‬بسبب‭ ‬مساحة‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬بمجرد‭ ‬نزولهم‭ ‬فى‭ ‬محطتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬بهم، لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬ملامح‭ ‬وجوههم‭ ‬جيدا،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قدموه‭ ‬لى‭ ‬من‭ ‬نصائح‭ ‬ومشاعر‭ ‬محبة‭ ‬وصدق،‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬يُنسى،‭ ‬وأكبر‭ ‬دليل‭ ‬بإننى‭ ‬أتحدث‭ ‬عنهم‭ ‬الأن‭ .. ‬هؤلاء‭ ‬وغيرهم‭ ‬لا‭ ‬تربطنى‭ ‬بهم‭ ‬علاقة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولكن‭ ‬قدموا‭ ‬لى‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬عندهم،‭ ‬خبرة‭ ‬سنين‭ ‬عمرهم‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتسائل‭ ‬فيما‭ ‬بيننا،‭ ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬ديانة‭ ‬أو‭ ‬عرق‭ ‬ننتمى‭ ‬؟‭.. ‬نزل‭ ‬جميعهم‭ ‬فى‭ ‬محطات‭ ‬مختلفة‭ ‬تاركين‭ ‬أجمل‭ ‬بهجة،‭ ‬وهكذا‭ ‬أيضا‭ ‬الحياة‭ ‬التى‭ ‬نعيشها،‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬له‭ ‬وقت‭ ‬معين‭ ‬ويغادرها‭ ‬فيه،‭ ‬فما‭ ‬أجمل‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل‭ ‬لشركائك‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ .. ‬تقدم‭ ‬بسمة‭ ‬أمل‭ ‬لكل‭ ‬بائس،‭ ‬تمسح‭ ‬دمعة‭ ‬ألم‭ ‬لوجه‭ ‬حزين.

لمسة‭ ‬شفاء‭ ‬لكل‭ ‬جريح،‭  ‬لمسة‭ ‬حب‭ ‬لقلب‭ ‬موجوع‭ ..  ‬كُن‭ ‬شخص‭ ‬معحب‭ ‬ومعطاء‭ ‬يتذكره‭ ‬الاخرون،‭ ‬حقيقة‭ ‬يا‭ ‬عزيزى‭ ‬،‭ ‬كُن‭ ‬مثل‭ ‬راكب‭ ‬القطار،‭ …‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى