هي سؤال المحطات الأخيرة في سفر العمر، هي الموانئ المتوارية في ضباب الزمن، تحوم حولها مراكب الأحلام، تأتي بخفة ريشة طائر حومٍ يودع أيلول، كمفتاح الصول تضبط نغمات القلب على سلّمها، هي السعادة... نقطة البداية والنهاية وما بينهما تدور حكاية الحياة ... صعوبة تحقيقها في بساطتها، مثل العطر الأنيق في نسمة يبوح بالحياة السرية للزهور، كالموشور المتعدد الوجوه يراها الإنسان من الجانب الذي يحبذه ويحقق مبتغاه... ولكن عندما تزداد رغبات الإنسان تتناقص فرص امتلاك السعادة، ليس لأنها تتناسب عكسا مع طموحه وأحلامه، بل لأنه يفقد أثرها بفوضى اتجاهات سعاداته، فيغفل عن برهات زمنية قصيرة، تختبئ فيها سعادته وميناء سلامه من اليأس. مثل رياضي يمارس رياضة الجري في طبيعة خلابة، فلا يلحظ جمالها العفوي ولا يستلب فكره معنى هذا الإبداع العظيم، لأنه يجري إلى الهدف، إلى القمة التي ستمنحه النشوة والسعادة المتلاشية أمام وجع تحقيق الهدف التالي... السعادة مظهر إيجابي في شخصية الإنسان، هي السهل الممتنع، تتشكل من مجموع سعادات في حياته، فهي جذعية بتكوينه، لها خصوصيتها المتأثرة ببصمة مشاعره وجينات فكره وألوان بيئته... لذلك لا يمكن مقارنتها أو تحقيق تمني مبادلتها مع سعادة انسان آخر، ولا عكسها في مرآة حياته، بل على العكس فهذا يضعفها، ويرهق الساعي إليها فيذوي سلامه الداخلي وتفقد سعادته وهجها. هي ليست وضعية، تُحَفَز بمثيرات مؤقتة كأنواع من الطعام أو النشاطات، ولا يمكن أن تكون روحية فقط، أو محض فكرية... بل كلها تتآلف لتكون السعادة بمعناها وفعلها. تشرق علينا في الصباحات الملونة بوجوه من نحب، ونسمعها بدعاء الأمهات فتستحي منه الأقدار، نبصرها بلقاء غائب كان الابن الضال للاشتياق .. نتلمسها في امتلاك حكمة الزمن القادم من دفئ الجلسات مع أحد الوالدين أو كليهما، هي بمشاركة سر صديق وبسلام يحل بين المتخاصمين، وبتجاوز جسور الألم في أحد امتحانات الحياة. هي في كل قفزة نجاح بتحقيق حلم مهما كان بسيط... وبكل ضحكة أو ذكرى معطرة بالحنين بمن التقيناهم في مفكرة أيامنا العابرة... هي تبرق وترعد حروف في قصائد العشاق، وتزهر مواعيد لتحقيق الأمنيات. هذا الرصيد يختزنه الإنسان في ذاكرته، فيكون المحفز للسعادة الجذعية الموجودة في تكوينه، التي تتوالد في مكانها وزمنها المناسب مع كل صورة وحدث مخبئ في هذا الرصيد. السعادة هي ابنة الحب وشقيقة الحرية، نتغنى بها وليس من السهل امتلاكها، كقول القديس أغسطينوس: "أحبب وافعل ما تشاء". فكم في رصيد كل منا من محفزات لتتولد بأجسادنا وأروحنا وأفكارنا الأندروفينات؟؟؟