على مر العصور والأزمنة وتناقل الحقبات والحكام بيـــن ملـــوك وســـلاطين وولاة ورؤساء تغيرت كل أوجه الحياة فى أرض مصر وتغيـــرت معهـــا اللغات والعرقيات والمساحات وظــل الأقبــاط رمـــانة الميزان الثابتة ولم تتأثر بكل العوامل التى مرت عليها وهذا ما جعلنى أسجل للتاريخ وبشكل مختصر عن وطنية أقباط مصر. أقباط مصر جزء لا يتجزأ من تاريخ الدولة المصرية لما تجاوز الألفين عام فهم من أصل فرعونى لم يختلط بأجناس أخرى وهذا ما جعلهم وبرغم عقيدتهم الدينية يحافظون على الورث الثقافى والفنى للفراعنة من معابد وموسيقى ولغة بل اعتمدوا فى ألحان وطقوس كثرة على التراث الفرعونى وأستمر حتى وقتنا هذا. وظل الأقباط ينتشرون فى كل ربوع مصر بالفكر والإقناع حتى أصبحت مصر بها أكبر تجمع مسيحى فى الشرق الأوسط حتى الآن وكان ومازال فى مفهوم الأقباط التعايش السلمى داخل المجتمع فلم يسجل التاريخ ولو حادث واحد فى قيام الأقباط بأحداث عنف طائفى أو حرب أهلية وكانت تلك البذرة التى وضعت منذ أكثر من عشرون قرن تثمر وطنية حقيقية للأقباط. الأقباط فى الحقبة الأولى: القرن الأول وحتى القرن السادس تلك الفترة كانت بداية تأسيس تواجد الأقباط فى مصر وأيضاً شملت تغيرات جذرية فى دخول اليونانيين والبطالمة مصر ونهاية العصر الفرعونى وتوافق الأقباط مع تلك التغيرات دون تصادم وحافظوا على مصر برغم مرورها بعصور عصيبة مثل عصر الاستشهاد الذى سجل أعلى تعداد للشهداء الأقباط فى تاريخ مصر ومع ذلك لم يسعوا إلى تقسيم جغرافى يتحصنون من خلاله ضد كم الاعتداءات والاضطهاد الذى تعرضوا له بل كانت وطنيتهم شهادة لهم سُجلت بأحرف من ذهب فى تاريخ مصر. الحقبة الثانية: من القرن السادس إلى القرن السابع عشر ولا يخفى عن أحد أن تلك الحقبة شملت تغيرات كثيرة جدا فى تاريخ مصر وتوَّلى حكم البلاد ملوك وسلاطين وولاة منهم من عمَّر البلاد ومنهم من خربها وعانت مصر من مجاعات وكوارث حالت دون أستمرارهم فى الوطن وبرغم ذلك كانت وطنيتهم وتجذرهم بارضهم الام هو الحائط الصد أمام ما عانوا وتجرعوا من حكام لم يكن بينهم أحد يحمل الهوية المصرية وأحقاقا للحق لم يعانى الأقباط فقط فى تلك الحقبة بل كل الشعب المصرى والتاريخ يسجل لنا على سبيل المثال ما أطلق عليها المجاعة المستنصرية والتى جاءت على الأخضر واليابس فى مصر لدرجة أن الشعب كان يأكل لحوم أولادهم وجيرانهم لسد الجوع وسميت بهذا الاسم نسبتا أن حدثت فى حكم المستنصر بالله. كما سجل التاريخ عادة وطنية للاقباط منذ حكم العباسيين حيث نقص منسوب النيلة فى النيل مما أدى إلى مجاعة كبيرة وخسائر زراعية فادحة مما دفع الحاكم لمطالبة الأقباط بالصلاة وبالفعل توجه الاكليروس القبطى على ضفاف النيل وأقاموا قداس وبعد انتهائه ألقوا بالقربان فى النيل ففاض وأستمرت تلك العادة سنويا حتى يومنا هذا. الحقبة الثالثة: من القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين وهى فترة شهدت تحسن ملحوظ لمصر وبالتالى أثر ذلك على جميع أفراد شعبها بكل أطيافهم وكان للاقباط تواجد حكومى جيد ولكن رصد لنا التاريخ موقف وطنى للبابا بطرس الجاولى حيث زاره مندوب قيصر روسيا فى مقره بوسط القاهرة وعرض عليه حماية القيصر للاقباط فكان الرد القوى من البطرك هل القصير سيموت فأجاب المندوب بكل تأكيد كل البشر سيموتون فرد البطرك نحن لسنا فى حاجة إلى حماية القصير الذى سيموت لأننا فى حماية الله الذى لا يموت. وشهدت نهايات تلك الحقبة وطنية كبيرة للاقباط فى مشاركتهم ضد الإنجليز بثورة ١٩١٩ واعتلائهم منابر المساجد ليحثوا ويناشدوا جموع الشعب المصري برفض الاحتلال كما أثمرت تلك الفترة ظهور شخصيات قبطية وطنية كبيرة مثل ويصا باشا واصف وبطرس باشا غالى والمناضل الوفدى مكرم عبيد صاحب المقولة الشهيرة أن مصر وطن يعيش فينا وليس وطن نعيش فيه. الحقبة الرابعة: من منتصف القرن العشرين وحتى كتابة تلك السطور وهى فترة بدأت بإعلان الجمهورية كبديل عن الملكية حيث لم يسجل التاريخ الحديث أى معارضه أو احتجاج قبطى على تغير نظام الحكم برغم جحافة القرارات الثورية التى أتخذت مع أصحاب الأملاك وأيضا أصحاب الرأى المعارض ولكن كانت مصر تمر بفترة شديدة الخطورة وحدثت حروب كثيرة أرغمت مصر على خوضها وكان التواجد القبطى سواء بين صفوف الجيش أو الشعب له تأثير قوى فى التلاحم الوطنى بتلك الفترة ولم يسجل التاريخ حاله خيانة واحدة لقبطى بين الجواسيس أو العملاء بل كان دورهم ودور قياداتهم الدينية فى توحيد الشعب خلف القيادات السياسية حتى لا تستغل القوة الخارجية أى انقسام داخلى كدافع لتدخلها في شئون مصر. أتذكر الدور الوطنى الذى قام به بطاركة الكنيسة مع رؤساء مصر فى تلك الحقبة والتى تناغمت تارة وتضاربت تارة أخرى ولكن لم يؤثر هذا أو ذاك على وطنيتهم كرموز قبطية يتبعها شعب كبير بل كل منهم له مواقف و أقوال تشهد على وطنية لا مثيل لها وعندما حاولت دول خارجية أرسال لجان ووفود لتقصى أوضاع الأقباط فى مصر كانت تقابل بالرفض من الكنيسة لعدم ترحيب الأقباط باى تدخل خارجى فى الشان الداخلى للبلاد وهذا كان السبب الرئيسى فى حماية مصر من الانقسامات والنزاعات الطائفية التى حاطت دول مجاورة مثل لبنان والسودان. وأود أن أسجل ما عايشته بشخصى عن وطنية أقباط مصر وبالاخص فى ثورتين من أهم الثورات الشعبية على مستوى العالم وهم ثورة اللوتس ٢٥ يناير والتى شارك بها الأقباط بقوة لرفض الظلم وثورة ٣٠ يونيو التى أسقطت الفاشية الدينية وكلاهما كان للاقباط دور وطنى كبير ومطالب مشروعة فى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وتطبيق المواطنة الكاملة دون أن يكون لهم أى مطالب فئوية أو إمتيازات خاصة ولم يسحبوا على تيار أو توجه سياسى بل انتماء مصرى كامل لا غش فيه. أن التاريخ يشهد بصفحات من نور وطنية للاقباط لا مثيل لها ولن تتوقف فهى كالدمـــاء التى تتـــدفق فى العروق بجسد الوطن الأم مصر وسيظل الأقباط شريك رئيسى فى وحدة مصـــر وســلامة أراضيها جنباً إلى جنب أخواتهم المسلمين.