- أهي رؤية طوباوية أم رؤية للمجرد المتواري وراء غلالات النفس البشرية؟ - هي معرفة الغيب أم استشفاف الحدث من وراء حُجُب الواقع؟ ماسة ساحرة الصفاء، صقلتها يد مبدعة بشفافية الأثير، ربما مصدرها بقايا حب محترق بنار الفضول تراكمت عليه الذوات الضائعة، صهرتهم طاقة حاضنة للكون أزلية الوجود. هذه الماسة لا يشّع بريقها إلا في مرحلة العمر الضائعة الإدراك وهي الطفولة. يخفت بريقها رويداً رويداً مع تفتح براعم الوعي عند الإنسان، إلى أن تتلاشى في يمّ الرغبات الواعية. يتسرب قليلاً من بريقها في لحظات الصفاء الروحي، والجلوس أمام مرآة الذات، لكنه بريق خافت يحجبه ضباب يوميات الحياة المتعبة فيخمد ثانية. كل إنسان يستطيع أن يختبر تلك الماسة، بالنظر إلى أي طفل نظرة حب صادقة فيراه يتجاوب بعفوية ساحرة، وإذا كانت النظرة عكسية لا مبالية متجردة من أي إحساس، فالنفور والهرب ردة فعل هذا الطفل... لماذا؟ لأن الطفل لديه رؤية نقية صافية، لم تشوهها أنانية البشر وتمزقها رغبات الحياة، والغريب أن الإنسان عندما يدخل مرحلة النضوج يبقى لديه حافز خفي يدفعه باتجاه البحث عن تلك الماسة المفقودة، فكل ما يصل إليه من امتلاك مادي ومعنوي، ما يزال بداخله نقص ما، يصل إلى الشعور بالعجز في الوصول إلى الإدراك بماهية وجود الحياة ومعناها، البعض يرى في قراءة الغيب ومعرفة المستقبل بأبجدية التكهن والخيال منفذ للتخفيف من شعور النقص هذا، ولكنه لا يعيد الوهج المفقود، اخراج هذه الماسة من لفائف النسيان يحتاج إلى أناة، يحتاج إلى الحب، حب الإنسان للمطلق، للحياة، للإنسان، للطبيعة، يحتاج إلى تبادل الإحساس مع كل الوجود بشكل مجرد بعيداً عن النظريات البشرية المقدسة. فتبادل المشاعر لا يخضع لقانون العرض والطلب، وإنما هو إعطاء القيمة لإحساس الآخر وتقبل النظر من خلال عيونه وتحليل رؤيته، هو الغوص في الأعماق، وبالتالي الارتقاء إلى نشوة الاكتشاف، وتلك هي البصيرة الوقّادة. عندها يستطيع الإنسان أن يلون المستقبل والعالم القادم بألوان استشفها من الواقع الذي يعيشه. فالتواصل الوجداني والفكري هو ما يميز الإنسان عن باقي الخليقة، فيعيش في الحدث كوجود حي، ولكن تلك الميزة فقدت فعاليتها كالأغذية الفاقدة الصلاحية، ربما هو انعدام الوزن المعنوي للكلمة، فأصبحت كصوت إيقاع لطبل أجوف. وربما إدمان رؤية البؤس والانتهاكات بحق البشرية والطبيعة، أدى إلى ارتخاء حبل الربط بين المشاعر، وبالتالي إلى اهترائه تحت عجلات اللامبالاة والقنوط، فأصبح الشواذ قاعدة. هل على الإنسان الدخول بدوامة الحزن والألم ليشعر بآلام أخيه الإنسان؟ وهل عليه أن تطحنه أنياب الجوع ورحى الحروب، ويجلده سوط الظلم والقهر ليسمع أنين المعاناة ويدركها؟ إنسان اليوم يعتمد على ما ترى عينيه، وما تسمع أذنيه وتَلْمُس يديه، وبذلك ترّسخ الثابت وتاه معنى المتغير، ولم يعد الحدث أسير الزمان والمكان. فإن لم يستعيد قدرته على الغوص في عمق الحدث، والبحث عن البقايا المخفية منه، إن لم يمتلك رغبة السفر في مشاعر الآخر، لن يجد ماسته المفقودة، فتكون العين الثالثة ترى ما وراء الضباب، وتسبر النوايا وإن احتجبت وراء طبقات متراكمة من الآراء والأفعال. طوبى لمن يملك عين البصيرة، ولمن يسعى لإزالة القشور عنها، لأنه يربط الحبل السري بين الوجود والمعنى، ويلبس الكلمة ثوبها الأرجواني، ويعيد للفكر شقيقته الضائعة بين اجترار الماضي وقلق المستقبل.