** بينما كنت عائداً من مقرعملى فى طريقى الى منزلى؛ تحملنى أجنحة الفرح والسرور الى عوالم البهجة والسعادة؛ رأيته قادماً من بعيد ولم أكد ألمحه حتى انقلب فرحى الى غم وتحولت بهجنى الى ضيق، وأصبحت هذه السعادة التى ملأتنى فى داخلى وأحاطت بــــى مــــن خارجى تعاســـة لا أظــــن أن فى كـــل هذه الدنيا تعاسة أكبر منها أو حتى تماثــلــها ... وسكتت كل ألحان وأغنيات السرور الت ى كانت قد ملأت قلبى، فأصبحـــــت ســـــؤالاً واحــــدا، راح كالطبول فى رأسى ويتغلغل وينتشر فى كل أجزاء جسمى : ما الذى جاء بهذا الشخص البغيض ليكون فى طريقى وأمــــامــــى الآن ؟؟. وفى لحظة واحدة فكرت وقـــــررت أن أغيـــــّر مســــارى وأحيد عن طريقى لكى لا ألتقى به ... تركت الشارع الواسع المرصوف النظيف والمضىء، وأسرعت أدخــــل زقــــاقــــاً ضيقاً وموحلاً؛ ويكاد أن يكون مظلماً لأ تجنب لقاء هذا الشخص الذى أمقته ولا أتمنى أن أراه أبداً. كان الزقاق الضيق مليئاً بمياه الصرف الصحى الكريهة الرائحة جداً ولم أجد فيه الا ممراً رفيعاً وضيقاً من الأحجار الصغيــــرة المرصوصــــة؛ والــــذى لا يــــكاد يتسع الا لعبورشخص واحد فقط عليه. وكان ذلك الممــــر الرفيــــع ملاصقاً للجدران السوداء اللون بسبب تلك القاذورات التى تجمعت عليه ولم يهتم أحد بتنظيفها.ولم أجد أمامى مفراً من السيرعلى هذا الممر الذى لا بد أن بعض الناس الطيبين قد صنعوه لمساعدة من تضطره ظروفه التعيسة -مثلى لعبور هذا الزقاق. الدنيا مليئة ايضا ببعض الناس الطيبين، كما أن فيها الكثيرون من الأشرارر أيضاً. مشيت على ذلك الممرالحجرى الضيق والصعب بحرص شديد حتى لا أنزلق واقعا فى الوحل ومحاذراً أيضاً من ملامسة الجدران مخافة أن تتسخ ملابسى البيضاء. رحت أسيركالبهلوان الذى رأيته فى السيرك وهو يسير على الحبل أو السلك الرفيع المعلّق فى الهواء. عندما وصلت الى القرب من نهاية الزقاق الطويل والقذر، وبينما كنت أسيرناظراً للأرض لأرى أين سأضع قدمى فى الخطوة التالية ، سمعت صوته الأجش الذى أعرفه جيداً: - هــــــــه؟!لمــــاذا تتحــــاشى لقائى؛وتفضّل السيرفى هذا الزقاق القذرعلى مقابلتى؟! رفعت عينى فرأيته على بعد خطوات قليلة منى؛ وأمامى تماماً. ملأنى الضيق حتى فاض من قلبى ملونا قسمات وجهى ، وجف حلقى فلم أستطع الرد عليه ولا بكلمة واحدة . نظر الىّ قليلاً ثم ابتسم ابتسامة غير واضحة اللون تماماً. بسبب ضعف وقلة الاضاءة فى هذا الزقاق اللعين. بعد لحظات الصمت قال: - ايه؟! ماذا بك ياعزيزى؟! لماذا تنظر الىّ هكذا؛ وكأنك قد رأيت عفريتاً؟! على كل حــــال أنــــا سعيــــد بلقائك... ولأننى لم أتعوّد الكذب ولا أحب النفاق، ولأن ما فى قلبى يظهرفى عينى وعلى ملامحى ولسانى، فقد أجبته بحدّة قاسية وجارحة: - ولكننى لست سعيداً بمقابلتك… - ولماذا لا تكون سعيداً فى ليلة سعيدة كهذه؟! -لأننى لا أحبك ولا أتمنى لقائك أبداً... - ولماذا لا تحبنى ولا تتمنى لقائى أبداً؟! -لأنهـم أخبــرونى بأنــــك قلــــت عنى...وقلت...وقلت… فوجئت به يضحك مقهقهاً، ثم توقف عن قهقهاته ونظرالىّ قليلاً ثم قال: -ولكنهم أخبرونى أيضــاً بأنــــك قلــــت عنــــى أننى...وأننى...وأننى… -لم أقل عنك ولا حرفاً واحداً مما أخبروك به… - وأنا أيضاً لم أقل شيئاً يسىء اليك أبداً… - ومــــا هــــــــى الحــــقــــيــــقــــة اذن؟؟! - وهل يصلح هذا الزقاق الضيق الموحل والمظلم للبحث فيه عن الحقيقة؟؟!! - ومــــــــاذا تــــرى وتقــــتــــــــرح اذن؟؟! - فى الشارع الواسع الكبيربميدان المحطة مقهى رائع يقدمون فيه شاياً ساخناً مميّز النكهة ..اذا كان وقتك يسمح، يمكننا أن نذهب اليه ونجلس معا لنعرف الحقيقة… قبل أن أجيبه؛ كان قد تأبّط ذراعى وكأننا صديقين قديمين، وشدنى معه شداً، فمشيت معه مستسلماً ومضطراً كالمقبوض عليه. روى لى نكتة أضحكتنى فى أعماقى دون أن تظهر على شفتــــىّ ولكــــنــــنــــى قـــلــــــــت لــــنــــفــــسى: قد يكون ممثلاً بارعاً يجيد اخفاء مشاعره الحقيقية...علىّ الانتباه له والحذر منه... وصلنا المقهى.جلسنا وتحادثنا. اكتشفنا أننا كنا ضحية بعض الوشاة والنمامين الخبثاء الذين لم يكن من مصلحتهم أن نكون على وفاق معاً. تصارحنا وتصالحنا، وتصافحنا . قمنا لننصرف على وعد بلقاءات أخرى ومستمرة، بيننا. عندما صافحته شاكراً ومودعاً أحسست بحرارة محبته تنتقل الى قلبى عبر يده التى كانت تحتضن يدى بود ظاهر . قال ضاحكاً: - نسيت...فاسمح لى بتهنئتك بالعام الجديــــد … كــــل ســــنة وأنت طيب … - وأنــــت وكــــل مــــن تــــحــــبــــهــــم ويحبونــــك بصحــــة وســــــــعــــادة … غــــادرنا المقهى الكبيــــر، وبينما كنت أنطلق مبتعداً فى طريقى الى أسرتى ومنزلى، نظرت ورائى فرأيته يلوّح لى بيديه وعلى وجهه ابتسامة رائعة وفى عينيه محبة واضحة؛ وعلى شفتيه ظــــلال حروف: كل سنة وأنت طيب. همست لنفسى معاتباً: كان يجب أن أتحقق مما أخبرنى به الوشاة قبل أن أغضــــــــب منــــــــــــه وأكــــــــرهــــــــه.. واصلت السيرفى الشارع الواسع المرصــــوف النظيف والمضىء عائداً الى بيتى وأسرتى، وأنا أحس بأننى قد أصبحت أكثر سعادة ؛ لأننى كسبت صديقاً جــــديــــــــــــــــــــداً. للأيام….