ملاك ميخائيل

الأم فى الأديان

بقلم/ ملاك ميخائيل

ماما… أمى…

** فى صباح ذلك اليوم الجديد، استيقظت مبكراً كعادتى؛ وعندما فتحت نافذة حجرتى الصغيرة

رأيت أشياءاً لم أكن ألتفت اليها من قبل. رأيت الشمس أكثراشراقاً؛ وتكاد أشعتها تضحك وهى

تدخل غرفتى متراقصة. رأيت السماء وقد تحوّل لونها الأزرق(السماوى) المعروف لمجموعة

من الألوان الزاهية المتلألئة بأفراح لا ترى بالعين ولكنها تملأ القلب والمشاعرجميعاً. رأيت 

الحمام الذى تربيه جارتنا العجوزالطيبة(أم سمير) لا يكاد يبقى فى مكان واحد؛ بل يطيرفى

سعادة ظاهرة من مكان الى آخر؛ وهديله الرقيق المنتظم يكاد أن يكون أغنية مليئة بالسرور

الذى يغمرك بالفرح والسعادة والآمال الجميلة. حتى هذه الوردات الصغيرة الجميلة التى كنت

قد زرعتها فى الاصيص الفخارى ووضعته على افريزالنافذة الرفيع- حتى هذه الوردات-راحت

تميل الى بعضها البعض متبادلة كلمات لا يسمعها سواها. وغادرت نافذة حجرتى؛ ودخلت الى

بهوالشقة؛ فرأيت السمك الملوّن الصغيرالذى أحبه وأربيه فى ذلك الحوض الزجاجى الشفاف

-رأيته- وقد راح يجرى وراء بعضه البعض فى حركات طفولية شقية ومرحة؛ حركات غريبة

ومثيرة لم أره يقوم بها من قبل. وبينما كنت واقفاً أشاهد حركات الأسماك الصغيرة الشقية؛ اذا

بى أسمع صوت ابنتى الجميلة(نورا) مختلطاً بصوت ابنى الحبيب(مينا) فى حجرة الاستقبال

وهما يصيحان معاً قائلين : ( كل سنة وأنت طيبة … يا ماما)…

وأسرعت ذاهباً الى حجرة الاستقبال؛ لأرى وأعرف ما يحدث هناك. وعندما وصلت الى باب

الغرفة؛ رأيت ابنتى وابنى يحتضنان أمهما – زوجتى الحبيبة طبعاً- بينما كانت هى تضمهما الى

صدرها بحنان واضح؛ وتقبلهما بحب مسموع قائلة لهما: (وأنتما طيبان وسعيدان باذن الله)….

وألقيت عليهم تحيّات الصباح؛ ثم قلت لهم معاتباً وممازحاً: ألا تفرحوننى معكم؟! ما هى مناسبة هذه الاحتفالية الأسرية الرائعة والجميلة؟!. صاح ابنى وابنتى فى صوت واحد : اليوم هو(21)

مارس ياأبى؛ اليوم هو عيد الأم. ودخلت اليهم؛ وأبعدت ابنتى وابنى عن حضن أمهما بلطف

واحتضنتها وقبلت جبينها قائلاً لها بكل قلبى ومشاعرى كلها: عيد أم سعيد باذن الله، وكل عيد

أم وأنت طيبة ياأعظم أم ؛ وأجمل وأروع زوجة فى العالم. وبعد تبادل التهانى والقبلات مع كل

من زوجتى وابنتى وابنى، اتفقنا على عمل احتفال فى المساء بهذه المناسبة العظيمة والجميلة.

ولما عرفت أن اليوم هو(عيد الأم)؛ عرفت سروسبب كل المناظرالجميلة والغريبة التى رأيتها

منذ صباح ذلك اليوم السعيد. وعندئذ دار فى رأسى شريط طويل من ذكريات طفولتى البعيدة

والتى قضيتها مع(أمى) الحبيبة – رحمها الله- والتى كنت بعدما أذهب وأجىء؛ وألعب وأتعب

لا أجد فى آخرالأمرالا حضنها الدافىء الرحيب لألتجىء اليه وأختبىء به وأستريح فيه من كل

ما لقيته فى يومى العصيب.ولم أجد فى كل أيام عمرى الطويلة والمتعبة غيرحب(أمى) الحبيبة

الغالية لأعيش فيه وأحيا به وأسعد فى جنباته…

وفى ومضة الهام ولمحة ابداع؛ تتابعت فى داخلى كل قراءاتى الكثيرة والمتنوعة من القصص

والأشعاروالصورالبديعة والرائعة عن حب وعطاء وتضحيات الأمهات. وأسرعت الى غرفة

مكتبى؛ وجلست لأكتب هذا الملف الخاص عن(ماما…أمى)، والذى أقدمه هدية حب وشكر

وعرفان لكل أم فى العالم، معترفاً ومؤكداً بأنىى وكل كتّاب العالم – ومهما كتبنا- لا يمكن أن

نوفى الأم بعض حقها من الحب والتقديروالشكروالعرفان، ويكفى أنها -ومن بعد الله طبعا- هى

التى تعطى أبنائها فرصة المجىء للحياة، ثم تظل طوال عمرها ترعاهم وتحافظ عليهم وتعلمهم

وتنصحهم وتدعو لهم، باذلة كل حياتها ليسعدوا بحياتهم؛ ومضحية بعمرها ليعيشوا أعمارهم فى

ابتهاج وسروروهناء…وأترك للقارىء الحبيب الآن أن يتجول فى بستان الحب والعطاء الأموى

داعياً الله أن يجد في هذه السطوربعض النوروالعطور، نورالأمومة وعطورها…والله معكم….

** الأم فى الأديان…

** تتفق الأديان كلها على أمرين أساسيين هما: الايمان بالله وتوحيده، واكرام الوالدين والبربهما

مع التركيز بالأكثرعلى اكرام الأم والاحسان لها؛ لأنها الأولى بحسن المعاملة وجميل المعاشرة

ورقة الصحبة وأوفرالعطف، وتوفيراحتاجاتها وعمل كل ما يسرها ويرضيها…

ففى التوراة التى أعطاها الله لنبيه(موسى) حوالى سنة(1600) قبل الميلاد، أوجب على بنى

اسرائيل معرفة الوصايا العشروحفظها والحرص على العمل بها بكل الاهتمام والتدقيق. وفى

الوصية الرابعة شدّد الله على اكرام الوالدين قائلا: أكرم أباك وأمك لكى تطول أيامك على الأرض التى يعطيك الرب الهك(خروج12:20)، وطول الأيام ليس معناه طول العمروكثرة

السنين، لكنه بالاضافة الى ذلك يعنى البركة والخيروالسلام والأمان. وفى سفراللاويين يوصى

الله قائلاً: تكونون قديسين لأنى أنا قدوس الرب الهكم، تهابون كل انسان أمه وأباه؛ وتحفظون

سبوتى، أنا الرب الهكم(لاويين1:19-3). ولاحظ هنا أن الوصية الالهية تقدّم(الأم) على(الأب)

وقد يكون ذلك لأن الأم هى الأكثرعطاءاً والأكثرضعفاً واحتياجاً أيضاً. وتكملة لهذه الوصية

الالهية الموجبة والملزمة تأتى الوصية التالية: كل انسان سبّ  أباه أو أمّه فانه يقتل؛ قد سب أباه

أو أمّه دمه عليه(لاويين 9:20). وفى سفرالأمثال الذى كتبه النبى والملك الحكيم(سليمان ) سنة

(1015)ق.م تقريباً؛ نقرأ: الابن الحكيم يسّرأباه؛ والابن الجاهل يحتقرأمه(أمثال20:15). ثم

يبيّن جزاء من يستهزىء بأبيه ويحتقراطاعة أمه قائلاً: العين المستهزئة بأبيها والمحتقرة اطاعة

أمها تقورها غربان الوادى وتأكلها فراخ النسر(أمثال 17:30). وتوضّح كلمة الله الموحى بها

بركات اطاعة الأبوين فيقول: اسمع ياابنى تأديب أبيك؛ ولا تنس شريعة أمك؛ لأنهما اكليل نعمة

لرأسك وقلائد لعنقك(أمثال 8:1)..

وفى الانجيل- كتاب العهد الجديد- قد لا نجد وصية مباشرة وواضحة باكرام الوالدين، وأسباب

ذلك : ربما اكتفاءاً بما جاء فى الوصية الرابعة من الوصايا العشرالتى أعطاها ل(موسى) النبى

على جبل سيناء- كما سبق وذكرنا- وغيرها من الوصايا المشابهة والمكملة فى أسفارالعهد

القديم . وربما لأن اكرام الوالدين وطاعتهما هو تصرف وسلوك انسانى طبيعى يقوم به كل

انسان عاقل وحكيم ومؤدب؛ يقدّر الجميل ويحرص على رده لمن قدّمه اليه؛ وليس هناك جميل

أكبرولا أعظم من جميل الأم وعطاءاتها. وبالتأكيد لأن الرب يسوع المسيح قد أوصانا فى كل

تعاليمه ووصاياه بأن نحب كل الناس حتى الأعداء منهم. ومن الواضح جداً أننا بحبنا لكل من

يعيشون معنا سنحب قطعاً وبالتأكيد والدينا. وفى وصية صريحة ومباشرة يقول الكتاب المقدس

أيها الأولاد أطيعوا والديكم فى الرب لأن هذا حق. أكرم أباك وأمك التى هى أول وصية بوعد

لكى يكون لكم خير؛ وتكونوا طوال الأعمار على الأرض(أفسس1:6و2). فالأنجيل هنا يطلب

من الأولاد أن يطيعوا والديهم بحسب وصايا الله؛ أما فيما يخالف الوصايا المقدسة فلا طاعة

للوالدين على أولادهم. وأحب ويجب أن أوضّح هنا أن الانجيل الذى طالب الأولاد بطاعة 

والديهم؛ لم يفته أن يوصى الوالدين بعدم اغاظة أولادهم وضرورة تربيتهم بحسب تعاليم الله

ووصاياه(أفسس3:6). وفى وصية أخرى يوصى الانجيل الشباب وصغارالسن بالخضوع

للشيوخ وكبارالعمر قائلاً: كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ؛ وكونوا جميعاً خاضعين

بعضكم لبعض؛ وتسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين؛ وأما المتواضعون فيعطيهم

نعمة(بطرس الأولى5:5). وهذه وصية غيرمباشرة بطاعة الوالدين والخضوع لهما، لأنها

توصى الشباب وصغارالسن بالخضوع للشيوخ وكبارالسن، وبطريقة غيرمباشرة توصى الأولاد(الأصغرسنا طبعاً) بالطاعة والخضوع لوالديهم(الأكبرسناً باتلتأكيد) بالاكرام والحب.

وحتى الأديان غيرالسماوية توصى الأبناء بخضوع والطاعة واكرام الوالدين….

** الأم فى اللغة…

** جاء فى لسان العرب ل(ابن منظور): أم الشىء هو أصله وسبب ومصدروجوده. وجمع

الأم للآدميين(أمهات) ولغيرهم من الأجناس(أمّات). وأم مثوى الرجل: زوجته وأم عياله.

والأمى هو الانسان الذى لم يعرف القراءة والكتابة فبقى على حاله يوم ولدته أمه. وقد أورد

(ابن منظور) ثبتاً مطولاً عن اضافة كلمة(أم) الى غيرها لتعطى معنى جديداً؛ مثل: أم النجوم

يعنى المجرّة، أم التناءف: الصحراء الواسعة، أم الصبيان: الريح، أم جابر: الخبز، أم اللهيم:

الموت، أم شملة: الشمس، أم الخبائث: الحمى، أم الهاوية: جهنم….وغيرها مما يمكن للقارىء

الحبيب الرجوع اليها فى( لسان العرب). وفى كل اللغات نجد تشابهاً غريباً ومدهشاً فى نطق

كلمة(الأم)، ففى اليابانية: مودو، اليونانية: ميتير، الألمانية: موتر، الأرمنية: ماير، الصينية:

موكز، الروسية: مانوشكا، العربية: ماما، أمى، مامتى… ومن حكمة الله ومعجزاته أن الوليد

عندما يبدأ النطق ويشعربالجوع يقول: (مم)- بفتح الميم الأولى وتسكين الثانية- وهى مشتقة

من كلمة(ماما)، وكأنه يعرف بغريزته البريئة أن أمه هى مصدرطعامه الروحى والنفسى والجسدى جميعاً، وأنها هى التى توفرله اللبن والماء والحب والحنان وكل أسباب حياته….

** الأم أحلى قصيدة حب وحنان…

              حيوا الأمومة فى شذاها العاطر       واحنوا الجباه لقلب حب عامر

              فالأم حب لا يميل كما الهوى          والأم لحن فى ربيع زاهر

              هى شاطىء ترسو عليه حياتنا         ان تغرق الأيام كل بواخر

              هى باب قلب يدخل الفرح لنا           هى وهج نور فى ظلام سادر

              وأنا الشعاع الطالع من شمسها          أو قطر ماء من عطاها الممطر

              أو انى لحن فى أغانى حبها             أو نبضة تحيا … بحب نادر

              وأنا الوريقة فى كتاب عطائها           أو ظل ضىّ من ضياها الباهر

            مهما وصفت يبقى وصفى عاجزاً       أن يوصل النبض الحيى الشاعر

            ياأم …. انى قد أتيتك مهدياً               حباً سبقت زرعه بمشاعرى

            ولو انى عمرى قد حملتك ماشياً         لقضيت دهرى فى طريق دائر

            فى يوم عيدك قد أتيت محيياً             ومقدماً نبضات قلبى الشاكر

            ومعبّراً عما فى قلبى من الهوى         قد عاش يرعى فى رباك الطاهر

   ** الأم أعظم قصة عطاء وتضحية…                

** وأخيراً وأنا أختتم هذا الملف الصغيربكاتبه الكبيرجداً بموضوعه ؛ أحب ويجب أن

أعترف وأؤكد بأننى ومهما كتبت عن(الأم) – أية أم فى العالم وعلى مدى التاريخ كله-

فلا يمكن أن أوفيها حقها من التقديروالتكريم والشكروالعرفان…وليس هذا الملف الا باقة صغيرة اقتطفتها من بستان حبها الكبيروالغزير…

وفى نهاية هذا الملف الخاص آحب أن أحكى للقارئ الحبيب قصة ذلك الرجل

الذى أخبروه بوفاة زوجته فبكى وقال:رحمها الله ، لقد كانت زوجة عظيمة ورائعة ، وأدعوالله أن يعوضنى عنها بزوجة أخرى مثلها. ولما أخبروه بموت ابنه، بكى قائلا: ليرحمه الله ويعوضنى عنه بابن آخرمن زوجتى الجديدة…لكنهم عندما أخبروه بموت أمه وقع على الآرض نائحا وصارخا:

الآن خسرت من لا يمكن تعويضه، وفقدت حياتى كلها….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى