ملاك ميخائيل

الـعــروســــة (قصة قصيرة)

بقلم/ ملاك ميخائيل

‭** ‬عندما‭ ‬رآها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬؛‭ ‬وقف‭ ‬أمامها‭ ‬مندهشاً‭ ‬متعجباً‭ ‬ومبهوراً‭. ‬شدّته‭ ‬عيناها‭ ‬الملونتان‭ ‬اللامعتان؛‭ ‬وأذهلته‭ ‬شفتاها‭ ‬الحمراوتان‭ ‬الممتلئتان‭ ‬المثيرتان‭  ‬وأعجبته‭ ‬وقفتها‭ ‬المليئة‭ ‬بكل‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس‭ ‬والكبرياء،‭ ‬وكأنها‭ ‬تقول‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬ينظراليها‭ ‬ويراها‭ : ‬ها‭ ‬أنذا‭ ‬أمامك‭ ‬أنظر الىّ‭ ‬جيداً‭. ‬تأملنى‭ ‬على‭ ‬مهل‭.‬

هل‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬حلاوتى‭ ‬وجمالى‭ ‬من‭ ‬قبل؟‭!. ‬خيّل‭ ‬اليه‭ ‬أنها‭ ‬تكلمه‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬دون‭ ‬غيره؛‭ ‬فقال‭ ‬لنفسه‭ : ‬ليتها‭ ‬تكون‭ ‬لى؛‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬آخذها‭. ‬سرح‭ ‬مع‭ ‬عينيها‭ ‬الى‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬الجميلة‭ ‬وشبه‭ ‬المستحيلة‭. ‬تصوّر‭ ‬نفسه‭ ‬فارساً‭ ‬يذهب‭ ‬اليها‭ ‬على‭ ‬فرسه‭ ‬الأبيض‭ ‬الرشيق‭ ‬والسريع‭ ‬ليأخذها‭ ‬وراءه‭ ‬ويطير‭ ‬بها‭ ‬بعيداً؛‭ ‬الى‭ ‬جنة‭ ‬الحب‭ ‬والسعادة‭ ‬المليئة‭ ‬بالأشجار‭ ‬والورود‭ ‬والخالية‭ ‬من‭ ‬العزول‭ ‬والحسود‭. ‬أفاق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬يتحقق؛‭ ‬وهمس‭ ‬لنفسه‭ ‬ساخراً‭ : ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬فرساً‭ ‬أبيضاً‭ ‬رشيقاً؛‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬حماراً‭ ‬أسوداً‭ ‬وأعرجاً؟؟‭!. ‬عاد‭ ‬يتخيّل‭ ‬نفسه‭ ‬راعياً‭ ‬للأغنام؛‭ ‬يمسك‭ ‬فى‭ ‬يديه‭ ‬بناىٍ‭ ‬طويلٍ‭ ‬يعزف‭ ‬عليه‭ ‬لحناً‭ ‬شجياً‭ ‬،‭ ‬بينما‭ ‬هى‭ ‬تسير‭ ‬الى‭ ‬جواره‭ ‬وقد‭ ‬راحت‭ ‬تغنى‭ ‬بصوتها‭ ‬الرخيم‭ ‬والجميل‭ ‬بعض‭ ‬الأغانى والمواويـــــل‭ ‬الشعبيــــــة‭ ‬والشـــــائــعـــة وقد‭ ‬انــــدفعـــــت‭ ‬أمامهما‭ ‬بعض‭ ‬الخــــراف‭ ‬والمعــــــزات‭ ‬الصغيـــــــرة‮…‬

راح‭ ‬يمصمص‭ ‬شفتيه‭ ‬بأسى‭ ‬وحسرة‭ ‬وهو‭ ‬يراها‭ ‬تنظر‭ ‬اليه‭ ‬بعينيها‭ ‬الساحرتين‭. ‬خيّل‭ ‬اليه‭ ‬أنها‭ ‬تغمز‭ ‬له‭ ‬بعينها‭ ‬قائلةً‭ : ‬أنا‭ ‬أعرفك‭ ‬جيداً؛‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬خرافاً‭ ‬ولا‭ ‬معزاتٍ،‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬الا‭ ‬هذا‭ ‬الجلباب‭ ‬الذى‭ ‬ترتديه‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تغيّره‭ ‬أو‭ ‬تشترى‭ ‬غيره‭ ‬الا‭ ‬كل‭ ‬بضعة‭ ‬أعوام‭. ‬هزّ‭ ‬رأسه‭ ‬متأسياً‭ ‬وهمس‭ ‬لنفسه‭: ‬معها‭ ‬كل‭ ‬الحق‭. ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬الذى‭ ‬نحتفل‭ ‬به‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الأيام؛‭ ‬لم‭ ‬أمتلك‭ ‬نقوداً‭ ‬تكفى‭ ‬لشراء‭ ‬جلباب‭ ‬جديد‭ ‬يحمينى‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬الليالى الشتويـــــة،‭ ‬والــــذى‭ ‬لا‭ ‬يســـتـــطيـــــع‭ ‬هذا‭ ‬الجلباب‭ ‬القـديـم‭ ‬والمهتــــرء‭ ‬أن‭ ‬يحمينى‭ ‬منه‭. ‬لكن‭ ‬العين‭ ‬بصيرة‭ ‬واليد‭ ‬قصيرة،‭ ‬وما‭ ‬عندى‭ ‬حيلة‭ …‬

كان‭ ‬منذ‭ ‬قليل‭ ‬قد‭ ‬وقف‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الأرجوحة‭ ‬التى‭ ‬يركبها‭ ‬الأطفال‭ ‬والتى‭ ‬كانت‭ ‬تعلو‭ ‬وتطير‭ ‬بهم‭ ‬فى‭ ‬الهواء،‭ ‬وهم‭ ‬يتصايحون‭ ‬ويصرخون‭ ‬فرحين‭ ‬وخائفين‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬ولكنهم‭ ‬يهتفون‭ ‬كلما‭ ‬ارتفعت‭ ‬أو‭ ‬انخفضت‭ ‬بهم‭ ‬صارخين‭ ‬قائـــلــيــــن‭:‬

هيه‭…‬هيه‭…‬مرددين‭ ‬هتافهم‭ ‬هذا‭ ‬بنغمة‭ ‬موسيقية‭ ‬مميزة،‭ ‬يخيّل‭ ‬لمن‭ ‬يسمعها‭ ‬وكأنها‭ ‬تصدر‭ ‬عنهم‭ ‬وعن‭ ‬حركة‭ ‬الأرجوحة‭ ‬معاً‭. ‬لكنه‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رآها‭ ‬واقفة‭ ‬تبتسم‭ ‬له،‭ ‬نسى‭ ‬الأرجوحة‭ ‬والدرّاجة‭ ‬والأطفال‭ ‬والدنيا‭ ‬كلها،‭ ‬ولم يـعـــــد‭ ‬يتمـــنــى‭ ‬سواهــــــا،‭ ‬وأصبح‭ ‬حصوله‭ ‬عليها‭ ‬عيــــده‭ ‬الحقيقى‭ ‬وأمله‭ ‬الوحيد‭ ‬وحيـــــاته‭ ‬كلها‭….‬

مد‭ ‬يده‭ ‬فى‭ ‬جيب‭ ‬جلبابه‭ ‬الرث‭ ‬النظيف‭ ‬الذى‭ ‬غسله‭ ‬وكواه‭ ‬له‭ ‬بمناسبة‭ ‬العيد‭ ‬عم‭ (‬حسنين‭) ‬الكواء‭ ‬الوحيد‭ ‬بقريتهم‭ ‬الصغيرة‭. ‬أخرج‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬القروش‭ ‬القليلة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬به؛‭ ‬ممسكاً‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬حرصٍ‭ ‬شديد‭. ‬تقدّم‭ ‬مخترقاً‭ ‬الزحام‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬الى‭ ‬تلك‭ ‬المنصّة‭ ‬العالية‭ ‬التى‭ ‬رصّت‭ ‬ووقفت‭ ‬عليها‭ ‬كل‭ ‬أصناف‭ ‬الحلوى‭ ‬والعرائس‭. ‬قدّم‭ ‬قروشه‭ ‬للرجل‭ ‬الضخم‭ ‬الواقف‭ ‬خلف‭ ‬المنصّة‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬له‭ ‬بيده‭ ‬الأخرى‭ ‬للعروسة‭ ‬التى‭ ‬يريدها‭. ‬أخذ‭ ‬الرجل‭ ‬الضخم‭ ‬قروشه‭ ‬وعدّها‭ ‬بسرعة‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬بصوت‭ ‬متحشرج‭ ‬وقوى‭:‬

هذه‭ ‬ثمانية‭ ‬قروش‭ ‬فقط،‭ ‬وثمن‭ ‬هذه‭ ‬العروسة‭ ‬عشرة‭ ‬قروش‭…‬فهات‭ ‬قرشين‭ ‬آخرين،‭ ‬أو‭ ‬أعطيك‭ ‬بقروشك‭ ‬بعض‭ ‬أقراص‭ ‬الحمصية‭ ‬والسمسمية‭ ‬‮…‬

نظر‭ ‬الصغير‭ ‬الى‭ ‬الرجل‭ ‬الضخم‭ ‬مستعطفاً‭ ‬ومسترحماً‭ ‬وقد‭ ‬اغر‭ ‬ورقت‭ ‬عيناه‭ ‬بالدموع،‭ ‬ولكن‭ ‬الرجل‭ ‬انتبه‭ ‬للبيع‭ ‬للأطفال‭ ‬الآخرين‭ ‬المتزاحمين‭ ‬عليه‭ ‬ولم‭ ‬ينتبه‭ ‬لاستراحمه‭ ‬ولا‭ ‬لدموعه‭.‬

بعد‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬أعاد‭ ‬الرجل‭ ‬عليه‭ ‬نفس‭ ‬الكلمات‭ ‬بطريقة‭ ‬آلية‭. ‬نظر‭ ‬الصغير‭ ‬لعروسته‭ ‬بأسى،‭ ‬وهمس‭ ‬لها‭ ‬معتذراً‭: ‬آسف‭ ‬جداً‭ ‬ياحبيبتى؛‭ ‬رفض‭ ‬الرجل‭ ‬الضخم‭ ‬اعطاءك‭ ‬لى‭ ‬لأن‭ ‬نقودى‭ ‬لا‭ ‬تكفيه‭ ‬وعندما‭ ‬تتوافر‭ ‬معى‭ ‬النقود‭ ‬الكافية‭ ‬سآتى‭ ‬لآخذك‭ ‬معى‭ ‬اذا‭ ‬كنت‭ ‬تنتظريننى‭ ‬هنا،‭ ‬وحتى‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك؛‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬الآن‭ ‬ببعض‭ ‬أقراص‭ ‬الحمصية‭ ‬والسمسمية‭. ‬وسكت‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬يعطيه‭ ‬بعض‭ ‬الحمصية‭ ‬والسمسمية‭ ‬وقطعة‭ ‬ملبن‭ ‬حمراء‭ ‬اذا‭ ‬أمكن‭.‬

ناوله‭ ‬البائع‭ ‬لفافة‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬طلبه‭.‬

ذهب‭ ‬بلفافته‭ ‬الى‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬المقابلة‭ ‬لمنصّة‭ ‬الحلوى‭ ‬والعرائس‭ ‬التى‭ ‬توسطتهن‭ ‬عرسته‭ ‬الجميلة‭. ‬فتح‭ ‬لفافته‭ ‬وأخرج‭ ‬منها‭ ‬قطعة‭ ‬الملبن‭ ‬الحمراء‭ ‬وقضم‭ ‬منها‭ ‬قضمة‭ ‬ملأ‭ ‬بها‭ ‬فمه‭ ‬الصغير‭. ‬نظر‭ ‬الى‭ ‬عروسته‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؛‭ ‬وهز‭ ‬رأسه‭ ‬فى‭ ‬أسى‭ ‬وأسف‭. ‬مضى‭ ‬منصرفاً‭ ‬وقد‭ ‬أحس‭ ‬بالمرارة‭ ‬تملأ‭ ‬فمه‭ ‬وقلبه‭ ‬ومشاعره‭ ‬كلها‭ ‬‮…‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى