ملاك ميخائيل

قصـة العـام الجـديـد

بقلم/ ملاك ميخائيل

‭ ** ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬عائداً‭ ‬من‭ ‬مقرعملى‭ ‬فى‭ ‬طريقى‭ ‬الى‭ ‬منزلى؛‭ ‬تحملنى‭ ‬أجنحة‭ ‬الفرح‭ ‬والسرور‭ ‬الى‭ ‬عوالم‭ ‬البهجة‭ ‬والسعادة؛‭ ‬رأيته‭ ‬قادماً‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬ولم‭ ‬أكد‭ ‬ألمحه‭ ‬حتى‭ ‬انقلب‭ ‬فرحى‭ ‬الى‭ ‬غم وتحولت‭ ‬بهجنى‭ ‬الى‭ ‬ضيق،‭ ‬وأصبحت‭ ‬هذه السعادة‭ ‬التى‭ ‬ملأتنى‭ ‬فى‭ ‬داخلى‭ ‬وأحاطت‭ ‬بــــى‭ ‬مــــن‭ ‬خارجى‭ ‬تعاســـة‭ ‬لا‭ ‬أظــــن‭ ‬أن ‬فى‭ ‬كـــل‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬تعاسة‭ ‬أكبر‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تماثــلــها‭ … ‬وسكتت‭ ‬كل‭ ‬ألحان‭  ‬وأغنيات‭ ‬السرور‭ ‬الت‭ ‬ى‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬ملأت‭ ‬قلبى،‭ ‬فأصبحـــــت‭ ‬ســـــؤالاً‭ ‬واحــــدا،‭ ‬راح‭ ‬كالطبول‭ ‬فى‭ ‬رأسى‭ ‬ويتغلغل‭ ‬وينتشر‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬أجزاء‭ ‬جسمى‭ : ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬جاء‭ ‬بهذا‭ ‬الشخص‭ ‬البغيض‭ ‬ليكون‭ ‬فى‭ ‬طريقى‭ ‬وأمــــامــــى‭ ‬الآن‭ ‬؟؟‭. ‬وفى‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة فكرت‭ ‬وقـــــررت‭ ‬أن‭ ‬أغيـــــّر‭ ‬مســــارى‭ ‬وأحيد‭  ‬عن‭ ‬طريقى‭ ‬لكى‭ ‬لا‭ ‬ألتقى‭ ‬به‭ … 

تركت‭ ‬الشارع‭ ‬الواسع‭ ‬المرصوف‭ ‬النظيف‭ ‬والمضىء،‭ ‬وأسرعت‭ ‬أدخــــل‭ ‬زقــــاقــــاً‭ ‬

ضيقاً‭ ‬وموحلاً؛‭ ‬ويكاد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مظلماً لأ تجنب‭ ‬لقاء‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬الذى‭ ‬أمقته ولا‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬أراه‭ ‬أبداً‭. ‬كان‭ ‬الزقاق‭ ‬الضيق‭ ‬مليئاً‭ ‬بمياه‭ ‬الصرف‭ ‬الصحى‭ ‬الكريهة‭ ‬الرائحة‭ ‬جداً‭ ‬ ولم‭ ‬أجد‭ ‬فيه‭ ‬الا‭ ‬ممراً‭ ‬رفيعاً‭ ‬وضيقاً‭ ‬من‭ ‬الأحجار الصغيــــرة‭ ‬المرصوصــــة؛‭ ‬والــــذى‭ ‬لا‭ ‬يــــكاد‭ ‬يتسع‭ ‬الا‭ ‬لعبورشخص‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬عليه‭.‬

وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الممــــر‭ ‬الرفيــــع‭ ‬ملاصقاً‭ ‬للجدران‭ ‬السوداء‭ ‬اللون‭ ‬بسبب‭ ‬تلك‭ ‬القاذورات‭ ‬التى‭ ‬تجمعت‭ ‬عليه‭ ‬ولم‭ ‬يهتم‭ ‬أحد‭ ‬بتنظيفها‭.‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬أمامى‭ ‬مفراً‭ ‬من‭ ‬السيرعلى‭ ‬هذا‭ ‬الممر‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬الطيبين‭ ‬قد‭ ‬صنعوه‭ ‬لمساعدة‭ ‬من‭  ‬تضطره‭ ‬ظروفه‭ ‬التعيسة‭ -‬مثلى لعبور‭ ‬هذا‭ ‬الزقاق‭. ‬الدنيا‭ ‬مليئة‭ ‬ايضا‭ ‬ببعض

الناس‭ ‬الطيبين،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فيها‭ ‬الكثيرون‭ ‬من‭ ‬الأشرارر‭ ‬أيضاً‭. ‬مشيت‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الممرالحجرى‭ ‬الضيق‭ ‬والصعب‭ ‬بحرص‭ ‬شديد‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أنزلق‭ ‬واقعا‭ ‬فى‭ ‬الوحل ومحاذراً‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬ملامسة‭ ‬الجدران‭ ‬مخافة‭ ‬أن‭ ‬تتسخ‭ ‬ملابسى‭ ‬البيضاء‭. ‬رحت‭ ‬أسيركالبهلوان‭ ‬الذى‭ ‬رأيته‭ ‬فى‭ ‬السيرك‭ ‬وهو‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬الحبل‭ ‬أو‭ ‬السلك‭ ‬الرفيع‭ ‬المعلّق‭ ‬فى‭ ‬الهواء‭. ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬الى‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬الزقاق‭ ‬الطويل‭ ‬والقذر، وبينما‭ ‬كنت‭ ‬أسيرناظراً‭ ‬للأرض‭ ‬لأرى‭ ‬أين‭ ‬سأضع‭ ‬قدمى‭ ‬فى‭ ‬الخطوة‭ ‬التالية‭ ‬،‭ ‬سمعت‭ ‬صوته‭ ‬الأجش‭ ‬الذى‭ ‬أعرفه‭ ‬جيداً‭:‬

‭- ‬هــــــــه؟‭!‬لمــــاذا‭ ‬تتحــــاشى‭ ‬لقائى؛وتفضّل‭ ‬السيرفى‭ ‬هذا‭ ‬الزقاق‭ ‬القذرعلى‭ ‬مقابلتى؟‭!‬

رفعت‭ ‬عينى‭ ‬فرأيته‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬خطوات‭ ‬قليلة‭ ‬منى؛‭ ‬وأمامى‭ ‬تماماً‭. ‬ملأنى‭ ‬الضيق‭ ‬حتى‭ ‬فاض‭ ‬من‭ ‬قلبى‭ ‬ملونا‭ ‬قسمات‭ ‬وجهى‭ ‬،‭ ‬وجف‭ ‬حلقى‭ ‬فلم‭ ‬أستطع‭ ‬الرد‭ ‬عليه‭ ‬ولا‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭ . ‬نظر‭ ‬الىّ‭ ‬قليلاً‭ ‬ثم‭ ‬ابتسم‭ ‬ابتسامة‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬اللون‭ ‬تماماً.

‭ ‬بسبب‭ ‬ضعف‭ ‬وقلة‭ ‬الاضاءة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الزقاق‭ ‬اللعين‭. ‬بعد‭ ‬لحظات‭ ‬الصمت‭ ‬قال‭:‬

‭- ‬ ايه؟‭! ‬ماذا‭ ‬بك‭ ‬ياعزيزى؟‭! ‬لماذا‭ ‬تنظر‭ ‬الىّ‭ ‬هكذا؛‭ ‬وكأنك‭ ‬قد‭ ‬رأيت‭ ‬عفريتاً؟‭! ‬على‭ ‬كل‭ ‬حــــال‭ ‬أنــــا‭ ‬سعيــــد‭ ‬بلقائك‭…‬

ولأننى‭ ‬لم‭ ‬أتعوّد‭ ‬الكذب‭ ‬ولا‭ ‬أحب‭ ‬النفاق،‭ ‬ولأن‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬قلبى‭ ‬يظهرفى‭ ‬عينى‭ ‬وعلى‭ ‬ملامحى‭ ‬ولسانى،‭ ‬فقد‭ ‬أجبته‭ ‬بحدّة‭ ‬قاسية‭ ‬وجارحة‭:‬

‭-‬ ولكننى‭ ‬لست‭ ‬سعيداً‭ ‬بمقابلتك‮…‬

‭-‬ ولماذا‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬سعيداً‭ ‬فى‭ ‬ليلة‭ ‬سعيدة‭ ‬كهذه؟‭!‬

‭ -‬لأننى‭ ‬لا‭ ‬أحبك‭ ‬ولا‭ ‬أتمنى‭ ‬لقائك‭ ‬أبداً‭…‬

‭-‬ ولماذا‭ ‬لا‭ ‬تحبنى‭ ‬ولا‭ ‬تتمنى‭ ‬لقائى‭ ‬أبداً؟‭!‬

‭ -‬لأنهـم‭ ‬أخبــرونى‭ ‬بأنــــك‭ ‬قلــــت‭ ‬عنى‭…‬وقلت‭…‬وقلت‮…‬

فوجئت‭ ‬به‭ ‬يضحك‭ ‬مقهقهاً،‭ ‬ثم‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬قهقهاته‭ ‬ونظرالىّ‭ ‬قليلاً‭ ‬ثم‭ ‬قال‭:‬

‭ -‬ولكنهم‭ ‬أخبرونى‭ ‬أيضــاً‭ ‬بأنــــك‭ ‬قلــــت‭ ‬عنــــى‭ ‬أننى‭…‬وأننى‭…‬وأننى‮…‬

‭ -‬لم‭ ‬أقل‭ ‬عنك‭ ‬ولا‭ ‬حرفاً‭ ‬واحداً‭ ‬مما‭ ‬أخبروك‭ ‬به‮…‬

‭-‬ وأنا‭ ‬أيضاً‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬شيئاً‭ ‬يسىء‭ ‬اليك‭ ‬أبداً‮…‬

‭- ‬ ومــــا‭ ‬هــــــــى‭ ‬الحــــقــــيــــقــــة‭ ‬اذن؟؟‭!‬

‭- ‬ وهل‭ ‬يصلح‭ ‬هذا‭ ‬الزقاق‭ ‬الضيق‭ ‬الموحل‭ ‬والمظلم‭ ‬للبحث‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة؟؟‭!!‬

‭-‬ ومــــــــاذا‭ ‬تــــرى‭ ‬وتقــــتــــــــرح‭ ‬اذن؟؟‭!‬

‭-‬ فى‭ ‬الشارع‭ ‬الواسع‭ ‬الكبيربميدان‭ ‬المحطة‭ ‬مقهى‭ ‬رائع‭ ‬يقدمون‭ ‬فيه‭ ‬شاياً‭ ‬ساخناً‭ ‬مميّز‭ ‬النكهة‭ ..‬اذا‭ ‬كان‭ ‬وقتك‭ ‬يسمح،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬اليه‭ ‬ونجلس‭ ‬معا‭ ‬لنعرف‭ ‬الحقيقة‮…‬

قبل‭ ‬أن‭ ‬أجيبه؛‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تأبّط‭ ‬ذراعى‭ ‬وكأننا‭ ‬صديقين‭ ‬قديمين،‭ ‬وشدنى‭ ‬معه‭ ‬شداً،‭ ‬فمشيت‭ ‬معه‭ ‬مستسلماً‭ ‬ومضطراً‭ ‬كالمقبوض‭ ‬عليه‭. ‬روى‭ ‬لى‭ ‬نكتة‭ ‬أضحكتنى‭ ‬فى‭ ‬

أعماقى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬شفتــــىّ

ولكــــنــــنــــى‭ ‬قـــلــــــــت‭ ‬لــــنــــفــــسى‭:‬

‭‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ممثلاً‭ ‬بارعاً‭ ‬يجيد‭ ‬اخفاء‭ ‬مشاعره‭ ‬الحقيقية‭…‬علىّ‭ ‬الانتباه‭ ‬له‭ ‬والحذر‭ ‬منه‭…‬

وصلنا‭ ‬المقهى‭.‬جلسنا‭ ‬وتحادثنا‭. ‬اكتشفنا‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬ضحية‭ ‬بعض‭ ‬الوشاة‭ ‬والنمامين‭ ‬الخبثاء‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬مصلحتهم‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬على‭ ‬وفاق‭ ‬معاً‭. ‬تصارحنا‭ ‬وتصالحنا،‭ ‬وتصافحنا‭ . ‬قمنا‭ ‬لننصرف‭ ‬على‭ ‬وعد‭ ‬بلقاءات‭ ‬أخرى‭ ‬ومستمرة،‭ ‬بيننا‭. ‬عندما‭ ‬صافحته‭ ‬شاكراً‭ ‬ومودعاً أحسست‭ ‬بحرارة‭ ‬محبته‭ ‬تنتقل‭ ‬الى‭ ‬قلبى عبر‭ ‬يده‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحتضن‭ ‬يدى‭ ‬بود‭ ‬ظاهر‭ . ‬قال‭ ‬ضاحكاً‭: ‬

‭-‬ نسيت‭…‬فاسمح‭ ‬لى‭ ‬بتهنئتك‭ ‬بالعام‭ ‬الجديــــد‭ ‬‮…‬‭ ‬كــــل‭ ‬ســــنة‭ ‬وأنت‭ ‬طيب‭ ‬‮…‬

‭-‬ وأنــــت‭ ‬وكــــل‭ ‬مــــن‭ ‬تــــحــــبــــهــــم‭ ‬ويحبونــــك‭ ‬بصحــــة‭ ‬وســــــــعــــادة‭ ‬‮…‬

غــــادرنا‭ ‬المقهى‭ ‬الكبيــــر،‭ ‬وبينما‭ ‬كنت‭ ‬أنطلق‭ ‬مبتعداً‭ ‬فى‭ ‬طريقى‭ ‬الى‭ ‬أسرتى

ومنزلى،‭ ‬نظرت‭ ‬ورائى‭ ‬فرأيته‭ ‬يلوّح‭ ‬لى‭ ‬بيديه‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬رائعة

وفى‭ ‬عينيه‭ ‬محبة‭ ‬واضحة؛‭ ‬وعلى‭ ‬شفتيه‭ ‬ظــــلال‭ ‬حروف‭: ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬وأنت‭ ‬طيب‭.‬

همست‭ ‬لنفسى‭ ‬معاتباً‭:‬ كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أتحقق‭ ‬مما‭ ‬أخبرنى‭ ‬به‭ ‬الوشاة‭ ‬قبل‭ ‬أن

أغضــــــــب‭ ‬منــــــــــــه‭ ‬وأكــــــــرهــــــــه‭..‬

واصلت‭ ‬السيرفى‭ ‬الشارع‭ ‬الواسع‭ ‬المرصــــوف‭ ‬النظيف‭ ‬والمضىء‭ ‬عائداً‭ ‬الى

بيتى‭ ‬وأسرتى،‭ ‬وأنا‭ ‬أحس‭ ‬بأننى‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬؛‭ ‬لأننى‭ ‬كسبت‭ ‬صديقاً

جــــديــــــــــــــــــــداً‭. ‬للأيام‮…‬‭.          

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى