مقالات رأى مختلفة

من فضلك .. “غَيَّر المحطة”

بقلم/ باسم سمير بطرس

في‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ومع‭ ‬إنتشار‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية‭ ‬المختلفة،‭ ‬والتي‭ ‬تتبعها‭ ‬تلك‭ ‬المنافسة‭ ‬الشرسة‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬سيحوذ‭ ‬نسبة‭ ‬المشاهدة‭ ‬الأعلى،‭ ‬ظهرت‭ ‬جمله‭ ‬شهيرة‭ ‬ترددها‭ ‬غالبية‭ ‬هذه‭ ‬القنوات،‭ ‬فعند‭ ‬كل‭ ‬توقف‭ ‬إعلاني‭ ‬او‭ ‬كما‭ ‬يسمونه‭ ‬فاصل‭ ‬إعلاني‭ ‬،‭ ‬يطلق‭ ‬المذيع‭ ‬جملته‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬سئمنا‭ ‬سماعها‭ ‬،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬وتلك‭ ‬الابتسامة‭ ‬تعلو‭ ‬وجهه‭ ‬،،‭ ‬‭”‬أوعى‭ ‬تغير‭ ‬المحطة‭”‬‭!!‬

هذا‭ ‬الشعار‭ ‬الذي‭ ‬تردد‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬مسامعي‭ ‬،‭ ‬أثار‭ ‬ذهولي‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬،‭ ‬لماذا‭ ‬تطلب‭ ‬مني‭ ‬هذا‭ ‬الطلب؟،‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬قيمة‭ ‬ما‭ ‬تقول‭ ‬أو‭ ‬تعرض‮ ‬‭ ‬هي‭ ‬الدافع‭ ‬لي‭ ‬لأستمر‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬برنامجك؟‭ ‬،،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬كنت،‭ ‬كما‭ ‬تدعي،‭ ‬تُقدم‭ ‬الأفضل،‭ ‬فماذا‭ ‬يُضيرك‭ ‬أن‭ ‬أشاهد‭ ‬سواك؟‭ ‬،‭ ‬ألن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬شهادة‭ ‬تثبت‭ ‬أحقيتك‭ ‬بالمشاهدة‭ ‬وتميزك‭ ‬إن‭ ‬عدت‭ ‬لمشاهدتك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ألقيت‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬منافسيك؟؟‭ ‬،،

كنت‭ ‬أعلم‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬التي‭ ‬يرددها‭ ‬المذيع‭ ‬أو‭ ‬مُقدم‭ ‬البرنامج‭ ‬لا‭ ‬تتعلق‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‭ ‬بجدية‭ ‬أو‭ ‬جودة‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭. ‬إن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬المحموم‭ ‬على‭ ‬شهرة‭ ‬أكبر‭ ‬ومساحة‭ ‬مشاهدة‭ ‬أوسع‭.‬

لكن‭ ‬ماذا‭ ‬عنا‭ ‬نحن‭ ‬المشهدون‭ ‬أو‭ ‬المستمعون،‭ ‬هل‭ ‬ينبغي‭ ‬لنا‭ ‬بالفعل‭ ‬أن‭ ‬نذعن‭ ‬لهذا‭ ‬الطلب؟‭ ‬هل‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬‭”‬نُغير‭ ‬المحطة‭”‬‭ ‬كما‭ ‬يطالبوننا؟‭ ‬هل‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬نظل‭ ‬نشاهد‭ ‬ونسمع‭ ‬نفس‭ ‬الأفكار‭ ‬ومن‭ ‬نفس‭ ‬الاشخاص؟‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬لا‭ ‬يعجبني؟‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬كلامه‭ ‬أو‭ ‬حواره‭ ‬مع‭ ‬أحدهم‭ ‬أثار‭ ‬داخل‭ ‬عقلي‭ ‬أسئلة‭ ‬لم‭ ‬يقدموا‭ ‬لها‭ ‬إجابات‭ ‬منطقية‭ ‬شافية‭ ‬؟‮ ‬

والأخطر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يقولونه‭ ‬كذباً؟‭ ‬كيف‭ ‬سأميز‭ ‬كذبهم‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬سواهم؟‮ ‬

وسؤالي‭ ‬الأخير‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬بيت‭ ‬القصيد‭ ‬والذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نسأله‭ ‬لأنفسنا،،‭ ‬هل‭ ‬يحدث‭ ‬معنا‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬نواحي‭ ‬حياتنا‭ ‬الفكرية‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬أمام‭ ‬التلفاز؟‭ ‬هل‭ ‬دؤبنا‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬وسماع‭ ‬ومشاهدة‭ ‬نفس‭ ‬الأنماط‭ ‬الفكرية؟‭ ‬هل‭ ‬نطَّلع‭ ‬على‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬واحدة‭ ‬دون‭ ‬سواها؟

قبل‭ ‬أن‭ ‬تجيب‭ ‬عزيزي‭ ‬القاريء‭ ‬،‭ ‬دعني‭ ‬أقدم‭ ‬لك‭ ‬بعض‭ ‬المخاطر‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تؤدي‭ ‬إليها‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الفكرية؛

•‭ ‬ أولاً؛‭ ‬قد‭ ‬ينمو‭ ‬بداخلك‭ ‬شعور‭ ‬بالكبرياء‭ ‬والتعالي‭ ‬لأنك‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تسمع‭ ‬وتفكر‭ ‬فيه‭ ‬وتردده‭ ‬هو‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬،‭ ‬وستولد‭ ‬بداخلك‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تشعر‭ ‬إحتقار‭ ‬تجاه‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬يقول‭ ‬رأي‭ ‬مخالفاً‭ ‬لما‭ ‬تعتقده‭. ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬بالنسبة‭ ‬لك‭ ‬مجرد‭ ‬رأي‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬رأيك‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬سيكون‭ ‬هو‭ ‬الباطل‭ ‬لأنه‭ ‬يخالف‭ ‬ما‭ ‬تعتقد‭ ‬أنه‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬نرى‭ ‬كثيراً‭ ‬مناقشات‭ ‬كثيرة‭ ‬تنتهي‭ ‬بتراشق‭ ‬لفظي‭ ‬وأهانات‭ ‬شخصية‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬موضوع‭ ‬المناقشة‭.‬

•‭ ‬ ثانيا؛‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬الوقت‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬سيأتي‭ ‬حتماً،‭ ‬الذي‭ ‬تعرف‭ ‬فيه‭ ‬شيئاً‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬دأبت‭ ‬على‭ ‬سماعه‭ ‬أو‭ ‬يحدث‭ ‬فيه‭ ‬أمراً‭ ‬مخالفاً‭ ‬لتوقعات‭. ‬ستحاول‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬تناقش‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬تجادل،‭ ‬لكنك‭ ‬ستُصدم‭ ‬أن‭ ‬منطقك‭ ‬ضعيف‭. ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬أمنت‭ ‬به‭ ‬وصدقته‭ ‬كان‭ ‬كذباً،‭ ‬فهو‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬كذلك،‭ ‬لكن‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬أمنت‭ ‬به‭ ‬لم‭ ‬يتعرض‭ ‬للأختبار‭ ‬أو‭ ‬لتحدي‭ ‬فكري‭ ‬حقيقي‭ ‬ينميه‭ ‬ويرسخه‭. ‬فكما‭ ‬أن‭ ‬العضلات‭ ‬الجسمية‭ ‬تقوى‭ ‬بالتمارين‭ ‬وحمل‭ ‬الأثقال،‭ ‬كذلك‭ ‬المعتقدات‭ ‬الفكرية‭ ‬تترسخ‭ ‬بتحديها‭ ‬بأفكار‭ ‬مختلفة‭ ‬وأسئلة‭ ‬حقيقية‭ ‬عميقة‭.‬‮ ‬

•‭ ‬ ثالثاً؛‭ ‬قد‭ ‬يصيبك‭ ‬جراء‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬إنعدام‭ ‬ثقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سمعت‭ ‬،‭ ‬ومَن‭ ‬سمعت‭. ‬قد‭ ‬تتشكك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تعلمت‭ ‬وعرفت‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬الحقائق‭ ‬وأجلاها‭.‬

بالطبع‭ ‬لا‭ ‬أتمنى‭ ‬لك‭ ‬ذلك‭ ‬،‭ ‬لذا‭ ‬أدعوك‭ ‬عزيزي‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الأن‭!!.‬‮ ‬أدعوك‭ ‬أن‭ ‬‭”‬تُغير‭ ‬المحطة‭”‬،،‭ ‬أن‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬أخرى،‭ ‬وتشاهد‭ ‬برامج‭ ‬أخرى،،‭ ‬أستمع‭ ‬لأراء‭ ‬مختلفة‭ ‬،،‭ ‬حتى‭ ‬أني‭ ‬أدعوك‭ ‬أن‭ ‬تجرب‭ ‬أن‭ ‬تستمع‭ ‬وتستمتع‭ ‬إلى‭ ‬ألوان‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الموسيقى‭ ‬والفن‭ ‬غير‭ ‬التي‭ ‬تعودت‭ ‬علي‭ ‬وأدمنته‭!!‬

لا‭ ‬أطلب‭ ‬منك‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬مطلقاً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬تشاهده‭ ‬وتحبه‭ ‬وتفكر‭ ‬فيه‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬حين‭ ‬ستفعل‭ (‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شاهدت‭ ‬وسمعت‭ ‬ورأيت‭ ‬الآخر‭ ) ‬سيكون‭ ‬لك‭ ‬رأيك‭ ‬الشخصي‭ ‬وقناعتك‭ ‬الراسخة‭ ‬الخاصة‭ ‬بك‭ . ‬ستكون‭ ‬هذه‭ ‬القناعة‭ ‬أقوى‭ ‬وأعمق‭ ‬وأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬كل‭ ‬التحديات‭ ‬الفكرية‭ ‬المحيطة‭. ‬سيزيد‭ ‬إحترامك‭ ‬لنفسك‭ ‬وللأخرين‭.‬‮ ‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى