مــــن منــا لم يتقابل مع الخيانة بعد أن خلعـــت أحــد أقنعــة احتيــالهـــا؟ وكأن السؤال من منا لم يصبه الزكام طوال حياته؟ الخيانة ليست بذرة هائمة حملتها رياح الجهات الأربع، ولا نبتة شاذة عن بيئتها. بل هي الظل المرتدي سواد الليل، المتواري خلف كواليس أجمل المشاعر وأرقى العهود... الخيانة لا تعرف العفوية كما الصدق والخيـــر ولهفـــة فـــرح تواصـــل المشـــاعر بـــل هي اختيـــار وقـــرار، وتفكير تراكـــم فيه ضجيج وفوضى الرغبات وحلم الوصول إلى المحطات بأقصر المسافات. نحن نتناول فعل الخيانة كحدث شاذ في مسيرة الحياة الطبيعية، ولكنها نتيجة لفعل تراكمي وليست فعل فطري في الإنسان. فالخيانة تسري في مجاري يوميات الحياة متوارية خلف حواجز لا يستطيع الانسان تجاوزها. تبدأ في خيانة الزمن عندما لا تتوائم رغبات الإنسان المحلقة مع قدرته الفعلية، المسورة بالزمن وحدود العمر، خيانة الأطياف الملونة للأحلام والأمنيات مع واقع يفرض قراره كمطرقة الحكم، عندما تنهار الثقة بالمشاعر وعزيمة القرار أمام قهر حدث، فتكون خيانة لاختبار العهود الذاتية... ولكنها خيانات خارج حدود التقييم والحكم، لأنها من سمات الزمن وملامح الحياة، ولا مصالحة بين الإنسان والزمن، وبما أن الإنسان يخضع للزمن يقبل المصالحة مع هذه الخيانات، لأنه أقوى منها بامتلاكه ديناميكية الاستمرار والتجدد بالأمل وبحيوية الحب، فتتلاشى ذكراها مع أمواج الحياة، كما يذوب الثلج عن أغصان شجر الشوح والصنوبر بدون أن يسرق من نضارتها لون... أما القبح المتنكر بقناع مموه من أرفع القيم وأنبل المشاعر فهو يدعى الخيانة البشرية، وهي فعل خبيث نابع من التكوين الفردي للشخص، فالغيرة وضحالة التفكير، وفقدان إمكانيات النجاح التي يمتلكها الغير، والسعي للوصول إلى ما تشتهي النفس وما يطفئ سعير الرغبة الجامحة بأبسط الطرق وأسرعها وإن كان أقذرها، كل ذلك يفتح باب التفكير لاختيار القالب المثالي لتقمص هذا الفعل. وغالباً يكون من أنقى وأثمن وأجمل القوالب الإنسانية. الخيانة هي فعل موت، نرى فيه فساد الجمال، وتلاشي قمم الأخلاق، وفرط عِقد المشاعر المتلاحمة، واحتراق لصور الذاكرة الملونة بالعذوبة. الخيانة تستمد خصوبتها من الضعف بمواجهة المشاعر والتصريح عن الرغبات. فخيانة الصداقة تقتل حرية اختيار شقيق الروح ... وخيانة الحب تطمس بالسواد سماوية الوفاء وتزلزل أعمدة الإخلاص... وخيانة الوطن تعدم الانتماء إلى كيان، وتنفي الوجود إلى العدم... أما خيانة الذات فهو هدم لهيكل هش مبني على رمال متحركة. الخيانة فعل هدم للخائن ولضحيته، فالخائن فقد المعايرة القيمية، واكتفى بنظرة مسطحة للحياة خالية من أي تفاوت أخلاقي، نظرة تحفز بصيرتها بواعث النفاق والغيرة وهشاشة الذات. أما الضحية فالألم يبتلع كل الردود...ألم ذهول أمام هدم جسور روحية وأخلاقية واجتماعية، ولكنه ألم صحوة يبقى حكمة في التفكير وحذر في التدبير. فالخيانة عصية على النسيان، لذلك تبقى محفورة على جذع الذاكرة، تُقرأ كلما طاف بها شريط الذكريات. ولكنها لا تقوى على انسان امتلك سر الزمان وهو الحب. السلوكيات الخبيثة هي القرين الخفي للقيم الراقية، فلا جمال بلا قبح، ولا نور بلا ظلام. وكما يقول جبران خليل جبران "فلولا سواد بعضنا لكان البياض اصم ولولا بياض بعضنا لكان السواد اعمى". فالكيفية التي يقرأ فيها الانسان رسالته هي التي تحدد الدور الأبرز لمن، للأصيل أم للقرين؟؟؟