ملاك ميخائيل
عبث البدايات … وليس عبث الأقدار ؟!!
فى ذكرى فوزه بالجائزة المشبوهة ( المحظوظ - السراب الذي صنعه الحرافيش )
عبث البدايات … وليس عبثا لأقدار ؟!!
بقلم/ ملاك ميخائيل شنودة
** لم تكن البداية الأدبية ل ( محفوظ ) برواية ( عبث الأقدار ) كما يظن بعض محبي ونقاد الأدب – بل بدأ حياته الأدبية بنشر بعض القصص القصيرة في مجلة ( الرسالة ) لصاحبها ( محمد حسن الزيات)عام1935
ثم نشرروايته الأولى ( عبث الأقدار ) سنة 1939 وهى رواية تاريخية
بعد أن كان قد نشر بعض القصص القصيرة أيضاً في ( المجلة الجديدة ) لصاحبها ورئيس تحريرها ( سلامة موسى )… هذا بالنسبة لحياته الروائية ، ولكن ليست هذه هي بدايته الأدبية في دنيا الكتابة ، فقد كانت بدايته ككاتب هي ترجمته – أو ما قال أنه ترجمة – لواحد من أهم وأكبر الكتب التاريخية المصرية ، وهو كتاب ( الآثار المصرية في وادي النيل ) للقس وعالم الآثار الأسكتلندي المولد ( جيمس بيكي ) = 1866 / 1931 = والذي كتب وأصدر العديد من الكتب في مجالات الآثار والفلك والتاريخ واللاهوت ، وكان عضواً في جمعية الآثار الملكية المصرية .. وله ايضاً كتاباً هاما بعنوان ( كشوف خلال قرن من الزمان ) أصدره سنة 1923 .. ومن عجيب الأمور أن ( جيمس بيكي ) ، وبعد أن أمضى سنوات طويلة من العمل المتواصل لأصدار كتابه الضخم ( الآثار المصرية في وادي النيل ) ، توفى فجأة بعد شهر واحد فقط من انتهائه من توضيب المسودة الأولى لكتابه . فاستعانت زوجته الوفية ( كونستانس . ن . بيكي ) بمجموعة من العلماء والأساتذة في مجالي الآثار والتاريخ ، بقيادة الأستاذ.
( ريجنَا لنِد إنجلَبك ) أمين المتحف المصري بالقاهرة ، باستكمال وإعداد فهارس الكتاب وملاحقه ورسومه وخرائطه ، والأشراف على طبعه ونشره ، فصدر الكتاب في خمسة أجزاء كبيرة – ليس هنا مجال عرضه – ولكن ( محفوظ ) وبتوجيه وتشجيع وتشجيع ومساعدة أستاذه ( سلامة موسى ) ، ترجم بعض فصول الكتاب ونشرها في ( المجلة الجديدة )، ثم اصدره في كتاب بعنوان ( مصر القديمة ) سنة 1932م..
وكتاب ( مصر القديمة ) ليس ترجمة دقيقة وأمنية لكتاب ( الآثار المصرية في وادي النيل ) ، بل هو ترجمة مشوهة وغير كاملة لكتاب ( جيمس بيكي ) الضخم ، ولو أنصف ( محفوظ ) لقال عن كتابه هذا أنه ( عرض وتلخيص ) أو لقال : ( مختارات من كتاب الآثار المصرية في وادي النيل ) ، فقد عرض فيه لأحد عشر فصلاً موجزاً عن ( جيمس بيكي ) وهذه الفصول هي : ( أرض ذات شهرة قديمة – يوم في طيبة -فرعون في القصر – حياة الجندي – حياة الطفل – بعض الأساطير – أستكشاف السودان – رحلة أستكشافية – الكتب المصرية -المعابد والقبور – قدماء المصريين والسماء ) .. ولا يهمنا ويلفت نظرنا بشدة من هذه الفصول التي تضمنها كتاب ( مصر القديمة ) إلا الفصل المعنون ب ( بعض الأساطير ) .. ففي هذا الفصل حكى ( بيكي ) بعض الأساطير الفرعونية القديمة والتي نقلها عنه.
( محفوظ ) وفي أسطورة عن الملك ( خوفو ) حكت عن الساحر أو العراف الذي جاء به الأمير ( هور دايف ) لأبيه خوفو حتى يسري عنه ويسليه ، فلما حضر العراف الساحر ( ديدي ) ، أخبر الملك بأن عرشه لمن يجلس عليه من بعده أيا من أولاده ، ولا حتى ولى عهده ( رع – خعوف ) ، بل سيرثه ويجلس عليه طفل حديث الولادة هو أبن الكاهن الأكبر لمدينة ومعبد ( أون ) .. ويتحدى ( خوفو ) هذه النبوة ، فيسعى جاهداً لقتل الطفل الوليد ، ويذهب الى مدينة ( أون ) مع جيشه وأولاده ، ولكن الكاهن الأكبر يكون قد نجح في تهريب طفله الوليد قبل وصول الملك وجنوده.
وكانت أحدى وصيفات زوجة كاهن ( أون ) قد وضعت طفلاً ، في نفس يوم مولد أبن الكاهن ( خوفو ) كبير الكهنة بقتل الطفل ليمنع تحقيق النبوة ، ذهب الكاهن لقتل أبن الوصيفة ( كانا ) ، ولكن لم يطاوعه قلبه على قتل الوليد ، وطعن نفسه بدلاً من طعن الطفل : وأستل ولي العهد ( رع – خعوف ) سيفه وهوى به ليقتل الطفل ، فألقت ( كانا ) بنفسها على طفلها لتحميه من الموت ، فأطاح سيف ولي العهد القاسي القلب برأسها ورأس وليدها بضربة واحدة قوية … وهكذا ظن ( خوفو ) أنه قتل الطفل الذي قالت نبوءة العراف أنه سيرث عرش مصر من بعده . وفي طريق عودته من ( أون ) الى ( منف ) ، يقابل ( زايا ) الوصيفة التي صحبت زوجة الكاهن الأكبر عنده بها بأبنها الى مدينة ( سنكا ) لتختبئ عند عمها ، حتى تنقذ وليدها من أذى ( خوفو ) …
ولكن زوجة الكاهن الأكبر تحتضر وتوشك على الموت ، فتأخذ وصيفتها العاقر الطفل وتهرب به ، تاركة سيدتها في الصحراء لتموت وحدها . وبينما الوصيفة في طريق هروبها مع الطفل ، يقابلها الملك وجنوده ، وعندما يعرفون أنها في طريقها الى زوجها الذي يعمل مع بناة الهرم الأكبر ، يصحبونها معهم رأفة بها وبطفلها من حيوانات الصحراء ، وقطاع الطرق … وهكذا تصل الوصيفة الى منف . وعندما ذهبت الى حيث بناة الهرم ، لتخبر زوجها بولادتها للطفل ، حتى لا يطلقها كما هددها قبل سفره ، بعد أن يأس من إمكان إنجابها أولاداً له . ويخبرها مفتش العمال أسفاً بأن زوجها قد مات … وتمر السنوات ، ويكبر الطفل ويصل الى أعلى المراتب ، ويتزوج أبنة ( خوفو ) ، ويقتل ولي العهد ، فيوليه ( خوفو ) عرش مصر بنفسه ، دون أن يعرف أن هذا هو نفسه الطفل الذي قالت النبوءة أنه سيعتلي عرش مصر ؟!! وهذه الأسطورة الفرعونية القديمة ، التي ذكرها ( جيمس بيكي ) في كتابه ( الآثار المصرية في وادي النيل ) ، هي التي أخذها ( محفوظ ) ونسج على منوالها – أو نقلها بنصها – روايته الأولى ( عبث الأقدار ) التي أصدرها له ( سلامة موسى ) سنة 1939.م ، بعد أن نشر فصولها في أعداد ( المجلة الجديدة ) قبل ذلك … وكان ( سلامة موسى ) قد أغرى تلميذه وتابعه ( محفوظ ) بقراءة التاريخ الفرعوني جيداً ، وكتابته على شكل روايات تاريخية أدبية ، تسهل قراءته و الأستمتاع به ، على غير الكتب العلمية الجافة … حيث كان ( سلامة ) من الداعين إلى الرجوع إلى مصر الفرعونية ، و الإعتداد بالتاريخ الفرعوني ، ويقول ( محفوظ ) عن ذلك : { هيأت نفسي لكتابة تاريخ مصر الفرعونية كله في شكل روائي ، على نحو ما فعل ( والتر سكوت ) في تاريخ بلاده . وأعددت بالفعل أربعين موضوعاً لروايات تاريخية ، رجوت أن يمتد بي العمر حتى أتمها كلها . ولكنني اكتب منها إلا ثلاث روايات فقط وهي : عبث الأقدار ، رادوبيس ، كفاح طيبة … } … ومن طريف وغريب ما يقال ، أن ( محفوظ ) عندما قدم روايته الى ( سلامة ) ، كان ( سلامة ) أيامها رزق بمولود أسماه ( خوفو ) فأقترح ( محفوظ ) على أستاذه أن يسمي الرواية ( خوفو ) كأَسم أبنهُ ؟! – لاحظ هنا النفاق والمراهنة الذي حاول ( محفوظ ) أن يمارسه مع أستاذه ، وهو نفس الأسلوب من النفاق والتملق والمداهنة الذي عمل به ومارسه طوال حياته بعد ذلك ، وكما سنرى فيما بعد – ولكن ( سلامة ) لم يوافق على إِقتراح ( محفوظ ) وقال له : أن أسم ( خوفو ) لا يصلح لإغراء القارئ على قراءة الرواية .و أختارها ( سلامة ) أسم ( عبث الأقدار ) ، بأعتباره عنواناً أكثر جاذبية وتشويقاً إلى قرأتها . ووافق ( محفوظ ) على رأى أستاذه أيضاً دون مناقشة .. وهكذا أصدرت ( عبث الأقدار ) موضوع مقتبس من أسطورة فرعونية سجلها ( جيمس بيكي ) ، و بعنوان أختاره لها ناشرها.
وهكذا سنكتشف ونكشف أن كل هذا الكم الضخم من الروايات ، عبارة عن مواضيع وحكايات ليس ل ( محفوظ ) الفضل في أبداعها ، لأنها كلها مأخوذة عن قصص معروفة ، أو حوادث مشهورة ، أو أساطير متداولة … وحتى العناوين لم يبذل جهداً في صنعها و إبتكارها ، فكل عناوينه ليس إلا أسماء شوارع وحواري ، أو أسماء بنسيونات وكازينوهات ، أو ما شابه ذلك .. أما عن شخصيات رواياته ، فحدث ولا حرج ، فكل شخصياته تقريباً تنحصر في الفتوات ، وبنات الليل ، والقوادين ؟!!
وفي رواية ( عبث الأقدار ) التي نحن بصددها هنا – وعلى سبيل المثال لا الحصر – سنجد الكثير مما نقله ( نجيب ) فيها عن أسطورة الملك والعراف التي ذكرها ( جيمس بيكي ) ، وترجمها عنه ( محفوظ ) في ( مصر القديمة ) . ونكتفي فيما يلي بمقتطفات صغيرة ، تاركاً للقارئ اللبيب أن يعود لكتاب ( بيكي ) ورواية ( محفوظ) بنفسه ، ليتأكد مما نقول:
ففي الأسطورة الفرعونية :
( ومثل العراف الساحر ديدي بين يدي الملك .. وسأله الملك :
-
لم لم أرك من قبل يا ديدي ؟!
أجابه الساحر : – (وهبك الرب الحياة والصحة والقوة أيها الملك ، وإن المرء لا يحظي بالمثول بين يديك ألا إذا دعوته … ) وهذا الجوار سيجده القارئ بنصه في
( عبث الأقدار ) … وجاء ايضاً في الأسطورة الفرعونية :
( ولما شاهد الملك ذلك ، قال الساحر :
-
وهل حقيقي تعرف سر منزل الرب ؟!
-
نعم هذا صحيح ، ولكني لست أنا الذي أستطيع أن أعلمك به …
-
إذن ، من الذي يستطيع ؟!
-
هو الولد الأكبر للسيدة ( ديديت ) زوجة كاهن رع إله الشمس ، وقد وعده رع بأن أولاده الثلاثة سوف يحكمون مملكتكم … )