مفاتيح أبواب الفعل هي الكلمات... قد تكون نغمة على أوتار الصوت، أو شرايين حبر على جسد ورقة، أو أثلام محفورة على حجارة لم تنسى حكاياتها مع الزمن. الكلمة هي مخاض انبثاقٍ للفكر، ومقياسٍ لسموه، ومعيار لنضوج الوعي الفردي والجمعي. للكلمة كيان ملون، كألوان الخريف مودّعةً الصيف ومتحسّرة على ربيع ولى بسرعة، ومستسلمة لرمادية الشتاء، لها أثوابها ترتديها في مناسباتها الخاصة، بجمالها تنافس وهج الأحجار الكريمة، وبدفئها تسرق مكان الشمس الغافية على التلال الخضراء. فالكلمة الطيبة كالندى تنعش أوراق القلب المتيبسة، وجواز سفر لتجاوز حدود الفكر الصلد، وتكون برداً وسلاماً في إخماد حُمى الخلاف، وهي الحبل السري لأصحاب السريرة الطيبة والمشاعر المرهفة. فكم من مسافات بعيدة بين الأحباء والأهل تتقزم أمام كلمات مشبعة بالمحبة صاخبة بالاشتياق. وفي كلمات تتغربل يوميات العمر، ويُنتقى منها ما سُجل على أوراق الذاكرة، فتكون ميراث وجداني للأجيال. فيها يُعَلب الواقع بزخم أحداثه في مفاهيم سلسة الهضم للفكر... وتصبح عدسة مبدعة الاحتراف في تنشيط الخيال لخلق صور لأساطير وحكايات من ذاكرة متوارثة. الكلمة هي مرآة أعماق النفس، تتماهى مع ألوان الانفعالات والعواطف، فكما هي مبهجة في أوقات، تكون مزعجة وجارحة كنصل حاد في أوقات أخرى، ومحفزة لفعل قتل وجودي أو وجداني، وقد تكون خلاسية بغاية تحديد موقف واضح. الكلمة اجتماعية لا تعطي معنى الا بتشابك حروفها، ولا تكون فاعلة إلا مع أخواتها في نقل الإدراكات الشعورية لتقدم المفهوم، قد تنكفئ وتعلن تمردها أو حزنها أو غضبها، فهي والإنسان واحد، وهي الامتداد لوجوده الأثيري، يُفنى الجسد ولكن تبقى الكلمات أجنحة الروح. وقد تكون الكلمة سببا في الانقسام والنزاع، عندما تكون غريبة وغير مفهومة للآخر، فتصبح عاملاً للصراع وليس جسر اتصال، كما في أسطورة برج بابل. وأكثر مشهد دراماتيكي لانهيار الكلمة معنى وقيمة، هو في الحروب، حيث تنزوي وتتوارى الكلمة الراقية مترافقة مع انهيار أخلاقي وحضاري، ويطفو القاع بطمي كلماته ومفاهيمه. عذاب الكلمة أنها لا تُعطى الدور الأول، بل دائما الفعل بؤرة الاهتمام، وان كان لا يبدأ فعل قبل أن يولد في الفكر كلمات... ولكنها لعنة "كاساندرا" كما ترويها الأسطورة، أن على الإنسان أن يسمع الكلمة من أفواه الحكماء والمفكرين، ولكن لا يصدقها ولا يكتشف صدقها إلا بعد فوات الأوان، كاساندرا الكاهنة اليونانية التي امتلكت النبوءة والمعرفة ولكن لعنة أبولو عليها أن تقول الحقيقة بكلماتها ولكن لا يصدقها أحد، وتلك هي معاناة الأنبياء والمبدعين وأصحاب الفكر والمعرفة في نشرهم للكلمة. حرية اختيار الكلمة المناسبة دليل على حرية الانسان المطلقة في بناء عالم إلى حد ما تحكمه القيم العادلة والأخلاق الرفيعة والجمال وحب الحياة أو عالم ضبابي متعب، تائه الهدف. جميل أن نختار كلماتنا "بدقة الجوهرجي" لأنها متى ولدت لا تموت ولا تعود. فكلماتنا هي حجار الواقع، وبها نخلق الوجود من الفكرة إلى الفعل، ونعطي الهوية لأعمالنا. الكلمة حنطة بيادر الفكر، فلتكن مغذية وغنية بالمنفعة، ومشبعة لشغف عشاقها.