بأى كلمات أوصف بابا العرب وأب جميع المصريين مسلمين ومسيحيين وبأى فكر أقدر أن أعبر عن أبوة وحنية هذا الحضن الجامع لكل البشر وبأى رصد أستطيع أن أجمع تاريخ هذا البرج العالى وبأى وفاء أتمكن أن أعطيه لمن قدم تعبه من أجل راحه الملايين. ظل هذا الرجل الشامخ على مدار حياته يسعى أن يوحد ولا يفرق أبناء الشعب المصرى وبرغم قساوة الأحداث فى عهده لكنه كان وبكل وطنية يرفض أى تدخل خارجى ويسعى إلى توحيد الصف المصرى ضد التطرف والتعصب الذى أنتشر منذ عهد السادات بعد فتح السجون للاخوان المسلمين والجماعات الإسلامية تلك الخطوة الكارثية التى تدفع مصر ثمنها حتى الآن. ومنذ نعومة اظافرى وأنا أتابع البابا شنودة الثالث وهو يتبادل الزيارات مع شيوخ الازهر ووزراء الأوقاف الإسلامية وعلماء أسلاميين وتعمقت العلاقة بينهم لدرجة أنه كان يتم دعوته لحضور مؤتمرات أسلامية أقليمية وعالمية بل ويلقى كلمة حكيمة ضمن فعاليات تلك المؤتمرات مع ترحيب شديد من جميع الحضور والمشاركين. كنا نفتخر ببابا العرب عندما يحرص رؤساء الدول وبالأخص الدول العربية والخليج على مقابلة البابا شنودة أثناء زياراتهم الرسمية لمصر وتقديم أوسمة و هدايا تذكارية لقداستة تعبيرا عن حبهم الجم لشخصه الفاضل وأستماهم لاشعاره وقصائده التى كانت محل أعجاب وتقدير منهم ودعواتهم له بزيارتهم فى دولهم لكى يتباركوا من وجوده وحضوره. رحل البابا شنودة منذ سبع سنوات فى هدوء وكبرياء كما عاش ولكن كلماته لا تزال كالأجراس تدق فى آذان كل مصرى مخلص يعشق تراب الوطن واحده شعبه حينما قال لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين. هو البابا الذى زار الجبهة قبيل حرب أكتوبر 1973 والتقى بقادة القوات المسلحة والضباط مرتين وقدمت الكنيسة بقيادته دورا وطنيا وتاريخيا فى الدعم المعنوى والسياسى للوطن أثناء الحرب كتوفير الأدوية والمساعدات الإنسانية، ودعم المجهود الحربى وخلال الدقائق الأولى للحرب عقد اجتماعات متتابعة لمساندة الجيش وتنظيم عدة زيارات للجنود الجرحى فى المستشفيات. هو الذى سجل رفضه القاطع لاتفاقية كامب ديفيد مؤكدا رفضه الذهاب مع السادات فى زيارته إلى تل أبيب إلا ويده فى يد شيخ الأزهر وبعد أن تتحرر المدينة من الاحتلال وأنه سيأمر الأقباط بعدم الذهاب للقدس فى ظل الاحتلال وهو ما أغضب الرئيس وبشدة واعتبر هذا الموقف تدخلا من البابا فى شأن سياسى ليس من اختصاصه وأصدر قرار تحديد إقامة البابا وسحب التصديق على قرار تعيينه كبابا للكنيسة المصرية ولكنه قدم مصلحة الوطن على مصلحته الذاتية واستقبل الأمر بهدوء وذهب بنفسه إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون قبل إعلان القرار، واستمر حتى يناير 1985 ليعود بعدها إلى كرسيه ويمارس مسؤولياته كبابا للكنيسة دون أى تفكير للأزمة التى مر بها، ومع ذلك أصر على رفض زيارة القدس وهو ما منحه شعبية كبيرة ليس فقط بين المسيحيين بل أيضاً بين المسلمين وليس فقط داخل مصر بل أيضاً فى الوطن العربى كله مما رشحه لكى يحصل على لقب بابا العرب عن جدارة واستحقاق. هو الذى زار كنائس المهجر بصحبة وفد من أساقفة وكهنة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وكانت عظاته تحمل رسائل لأبنائه فى المهجر حتى لا ينصتوا إلى الشائعات التى تتسرب إليهم دون أساس من الحقيقة عن أوضاع الأقباط فى مصر وكثيرا ما تعرض لانتقادات حادة واتهامات بأنه مسالم أكثر مما ينبغى. هو الذى قال فى حديثه لجيمى كارتر حين سأله كارتر: ما رأيك هل إسرائيل شعب الله المختار؟ فكانت إجابة البابا شنودة: إن كانت إسرائيل شعب الله المختار فأنا وأنت خارج شعب الله المختار. هو الذى عقد مؤتمرا شعبيا كبيرا فى الكاتدرائية المرقسية بعد تحديد إقامة الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات دفاعا ودعما منه للقضية الفلسطينية والقضايا العربية. هو الذى شارك فى الاحتفال برفع علم مصر على طابا وبدأت الكنيسة فى عهده إقامة موائد الوحدة الوطنية فى شهر رمضان موائد العائلة المصرية. هو الذى وقف أمام بعض الأقباط رافضا إنشاء حزب مسيحى سياسى يكون أعضاؤه على أساس دينى. وبعد هذا جميعه همست فى أذهانى كلمات البابا شنودة الثالث على والتى رسخت وطنية الاقباط عندما قال أن مصر ليست وطن نعيش فيه بل وطناً يعيش فينا وما أجملها كلمات لمعنى حقيقى داخل كل قبطى وداخل البابا شنودة نفسه الذى رفض اى تدخل فى شئون مصر بسبب الاحداث الطائفية التى وأن جرحت كثيراً مشاعره ولكنه كان ينظر نظره الحكيم للحفاظ على مصر حتى ولو كان على حساب الاقباط فقد أكد قول أستاذه الوطنى مكرم عبيد عندما قال اذا كان الغرب سيحمى الاقباط ويضع حماية دولية على مصر فليموت الاقباط وتحيا مصر. نبضات قلب البابا شنودة كانت تضق تسبيحاً لرب المجد تارة وقلقاً على رعيته تارة أخرى حيث كان قداسته يتمنى أن الوزنة الكبيرة التى تسلمها من يد المسيح وقت رسامته. بطريرك على الكنيسة الارثوذكسية فى مصر والمهجر تمنى أن يسلمها الى المسيح مرة أخرى ولكن وهى رابحه ثلاثون وستون ومائه. أوتار عزفها البابا شنودة على قلوبنا وجعلت شعوباً وأجيال فوق أجيال تشتاق أن تراه وتتلهف أن تستمع الى كلماته وتتذكر مقولاته وتحفظ عن ظهر قلب أشعاره وقصائده وتسجل حكمته التى عجز كثيرين على أستيعابها. حروف من مؤسوعة عبقرية كتبها هذا القديس لكى تعلم وتدرس لقرون قادمة فتاتئ بتلاميذ ومدارس تمنهج هذا التاريخ الكبير وتؤسس منه عقول جديدة تنتشر فى العالم لتنشر معها السلام والوداعه والصلاة والايمان. وأما عن أبتسامته فهى لا تؤصف الا بابتسامه طفل برئ لا يحمل داخله الا كل حب ولا يعرف شئ عن البغضه أو الضغينه لاحد ولا حتى لمن يسئ اليه وكنت أتعجب كيف يكون صاحب تلك الضحكه هو المحمل بهمومنا وأثقال المسؤليه التى تعلو راسه لكى يصل بنا الى ميناء الخلاص. مهما أوصف من أبتسامات أو حروف أو أوتار أو نبضات أو همسات أو روح أبى وحبيبى البابا المعظم بين البطاركة والقديسين شنودة الثالث لن أعطيه قيم أو كسور من قيم فى حقه فهو كان ومازال معلمى ومعلم الاجيال فتهنئتئ له بربح السموات وطلباً لنا أن يحفظنا الله على الارضيات ولتكن سيرته التى غيرت فى نفوس الكثيرين هى الاثار التى نسير عليها حتى نصل جميعاً للقائه مرة ثانيه وأنما بابديه لا تنتهى. تمضى مسيرة الآباء البطاركة ليكون قداسة البابا شنودة اماماً فى صفوفهم يقتدى بهم ويحتمى بتاريخهم وهو يصون وحدة مصر والمصريين بصلابة وعناد ومحبة تليق به وبمصر وقد جاء البابا شنودة فى زمن رفع فيه سيف العداء لمصر خصوم ألداء أشد عداوة وأشد خصومة من الاحتلال البريطانى وكان الخصوم يطمحون فى حالات كثيرة إلى شن حملات ضارية ضد مصر محاولين أن يقصموا ظهرها بسيف الفتنة الطائفية التى تتحول إلى براكين لو أن قداسة البابا أشهر غضباً أمام الرأى العام العالمى لكنه كان يرتقى بمصريته فوق كل الجراح ويحبط كل طموحات الأعداء .. فعندما أتى كلينتون رئيساً راهن على أن يدعو البابا إلى البيت الأبيض قبل زيارة مبارك ليعلن للعالم أولويات غير مقبولة ورفض البابا. وعقب أحداث الكشح كان قداسة البابا غاضباً جداً لكنه أبى ان يشهر غضبه حتى لا يستخدمه أعداء الوطن وكذلك الأمر فى مرات عديدة كان التأسلم يدق إسافيناً فى جسد وحدة المصريين لكن البابا تجاوزها من أجل مصر وأذكر ذات مرة كنت أزوره ووسط عديد من الآباء المطارنة صرخ مطران من الصعيد يا سيدنا أنت أبانا ومعلمنا ونحن نعانى ونضطهد والمسئولون كباراً وصغاراً يستخفون بنا وبكنائسنا .. اسمح لنا يا سيدنا أن نغضب لديننا .. وكان البابا يستمع وقد استند بكفيه على عصاه ولم يرد . وفجأة قال وهو يكاد يبكى موجهاً كلماته ليس لأحد ليس لأنه فى الكتاب أحبوا مبغضيكم وباركوا لاعنيكم وإنما لأننى معلق فى رقبتى خمسة عشر مليون قبطي، ومعهم مصريتى ومصريتهم ولا أريد ولن اسمح بقطرة دم تراق من أى طرف، فالفتنة إن اشتعلت ستتحول لبركان وهناك خصوم فى الداخل وفى الخارج ينتظرون الدم ليحرقوا الوطن ثم نهض واقفاً وغادر . أنطلقت الروح التى ظلت تخدم سيدها سنين كثيرة قاربت التسعون عام ولا يمكن أن تقارن عدد تلك السنوات بما قدم خلالها فالذى قدمه قداسة البابا طيلة حياته لا تكفى عصور وأزمنة وقرون حتى يستطيع تقديمها اشخاص أخرون وهذا جعل كثيرون يقفون مندهشين من أنجاواته وأدركوه الحقيقة عندما تاكدوه أن يد الله كانت تعمل معه دايماً. بأى كلمات أوصف قوة أسد الكنيسة المرقسى وبأى فكر أقدر أن أعبر عن أبوة وحنية هذا الحضن الجامع لكل البشر وبأى رصد أستطيع أن أجمع تاريخ هذا البرج العالى وبأى وفاء أتمكن أن أعطيه لمن قدم تعبه من أجل راحه الملايين. فمهما ظللت أكتب وأوصف وأفكر وأرصد وأوفئ لهذا الاب لن يشكل هذا حرف أو نقطه تسجل فى دفتر عزاء رجل رحل عن عالمنا لكنه سيظل فى عالمى وحياتى حتى النفس الاخير فقد توقف قلبك العظيم عن النبض. ولكن ستظل أعمالك العظيمة تنبض بالحياة فى قلوبنا وحان الوقت أننا نقول مع فراقك ربنا موجود وعنده تعزيات ولا يسمح أبداً أن تتبدد الرعية بفقدان الراعى لان الله له فى كل زمان ومكان شهود له يستطعون أن يكملوا مسيرتك يا أبى التى بذلت حياتك من أجلها كشمعة القرن الواحد والعشرين التى أنارت لكافة أركان العالم فتوهج العالم نوراً فوق نور. وبعد نياحتك الهادية السلامية شتان الفارق الان بين الارض والسماء شتان الفارق بين حزن وبكاء هنا وفرح وسعادة لا تنتهى فى السماء وإيضا شتان الفارق بين الحشد والزحام بين البشر الذى صاحب نياحتك على الارض والحشد والزحام بين الملائكة الذى صاحب أستقبالك فى السماء. والان لا أملك أن أقدم لك الا تلك الكلمات البسيطة يا أبى وحبيبى قداسة البابا المعظم شنودة الثالث بعدما فشلت وعجزت فى الوصول لجسدك المقدس لنوال أخر نظرة تبارك عينى التى أمتلت بدموع لم تنتهى حتى الان ولن تنتهى لفراق أب وراعى جاهد الجهاد الحسن من أجل ربح نفوس ووزنات البشرية كلها وتقديمها للمسيح لكى تفرح السماء ليس ببطريرك وراعى وأب وقديس فقط لكن بجموع من البشر تعلمت منه كيف يكون ربنا موجود.