كانت تَجُر قدميها جَرَّاً و هي ممسكة بكيس بلاستيكي متهرئ لا يمكن تمييز لونه من كثرة الإستخدام، في تعب استندت الفتاة على حائط إحدى المنازل المتراصة في الشارع الطويل الذي يقطع وسط المدينة المزحمة. و بصعوبة بالغة أخذت تقرأ لافتات المحال بصوت عال: " عص.. عصير الأمااانة.. مكتبة ال..نج.. النجاااح.. لو أنني أكملت سنة رابعة لكنت استطعت الآن أن أقرأ أسرع. لكنه والدي، سامحه الله، الذي أصر أن أترك المدرسة لأذهب لمشغل الــ ..". لمعت عيناها فجأة و قرأت بصوت أعلى: "الخوا..جة ..أبا.. أبـا ... دير.. نعم ...الخواجة أبادير.. تصليح شراء، بيع ... أخيراً". و زفرت في ارتياح. تأهبت لدخول المحل بخطوات سريعة فأوقفها صبي الخواجة على الباب قائلاً في حزم: "إنها السابعة إلا خمس دقائق. نحن نستعد للإغلاق. بإمكانك العودة يوم الإثنين صباحاً. مع السلامة". أجابته بتوسل: "أرجوك. إنني قادمة من كفر سلامة. لقد قطعت مسافة طويلة جداً و لن استطيع أن أعود مرة أخرى فأبي مريض و يحتاج أن أبقى بجواره". لكن مع هذا رفض الصبي إدخالها بإصرار! إنه يعرف جيداً هؤلاء الفتيات الريفيات اللائي يأتين للخواجة على فترات متباعدة. يعرف أنهن لا يستخدمن الذهب أبداً كَحُلِي للزينة إذ يعتبرنه قرشاً أبيضاً قد ينفع في أي يوم أسود، فيبيعونه عندما يضيق الحال و يشترونه عندما تتوفر السيولة. لكن، جميعهن بلا إستثناء ثرثارات، و لا يمكن أن يخرجن بأي حال من الأحول قبل ساعة كاملة من الفِصَال المُجْهِد. و لأن اليوم هو السبت و غداً عطلة. لذا لا يجب أن يضيع دقيقة واحدة مع تلك المزعجة. إن أسخف الزبائن على الإطلاق هم من يأتون مبكراً جداً أو من يصلون قبل الإغلاق مباشرة. رفعت الفتاة صوتها و صرخت في غضب: "إتركني، لن أرحل قبل مقابلة الخواجة". عندها خاف الصبي! لقد ذَكَّرَه صراخها بتوبيخ أمه الدائم له، كما أن الخواجة أبادير لا يحب المشادات أو الشوشرة كما يسميها و كثيراً ما يردد: "الصائغ سُمْعَة!". كل هذا جعل الصبي يتراجع عن حدته و يجيب: "الخواجة مسافر القاهرة ليشتري بضاعة. أنا هنا الكل في الكل. ماذا تريدين؟". قالت: "أريد أن أبيع عقداً، و لولا الحاجة المُرَّة ما بعته قط إذ يحمل رائحة أمي الغالية". قال الصبي بصبر نافذ: "أريني إياه". فتحت الفتاة الكيس البلاستيكي و أخرجت قطعة فنية رائعة من الذهب الخالص ذات خمسة فصوص زرقاء لامعة! لم يستطع الصبي أن يخفي لهفته على تلك الفرصة التي هبطت عليه من السماء فسألها: "بكم تريدين بيعه؟ سأشتريه لنفسي. فالخواجة يرفض شراء أي شيء بدون فاتورة". ثم ابتسم في خبث و أضاف: "و أنت بالطبع ليس معك فاتورة. أليس كذلك؟". لم يختلفا أبداً على السعر، و بعد وزن العقد، أخذه الصبي و أعطى الفتاة رزمتين ممتلئتين من الأوراق النقدية أخذتهما و إختفت بسرعة وسط الزحام. بعدها بساعة واحدة، و في الحافلة المتجهة إلى قرية كفر الغوانم البعيدة عن قرية كفر سلامة، وضعت الفتاة يدها داخل الكيس البلاستيكي ذاته و أمسكت رزمة من الجنيهات و تحسستها في فخر. ولم لا؟ ألا يحق لها أن تفتخر بذكائها؟. لقد تمكنت من خداع صبي الصائغ الأحمق الذي لا يعرف أن يميز بين الذهب الحقيقي و المزيف أو الفالصو كما تسميه. ضحكت وهي تشكر في سِرِّهَا البائع المتجول الذي باعها ذلك العقد المصنوع من الذهب الصيني الرخيص. كم كان رخيصاً بالفعل! ليس خسارة فيه العشرين جنيهاً التي دفعتها لشرائه. و قرب منتصف نفس الليلة، و على سرير صغير في غرفة فوق سطح إحدى العمارات السكنية القديمة، وضع سمير صبي الخواجة العقد الذهبي حول عنقه فَرِحَاً إذ إستطاع أخيراً أن يبرم أولى الصفقات الكبيرة لحسابه و ذلك بعد شهر واحد فقط من عمله عند الخواجة. و بعد بيع العقد أو حتى صَهْرَه لن يحتاج أن يعمل عند الخواجة كل هذا بفضل عبقريته الفريدة و سذاجة تلك الفتاة الريفية البلهاء التي باعته عقداً ثقيلاً ثميناً لا تعرف قيمته مقابل حفنة من الجنيهات المزورة التي إشتراها ليل أول أمس على المقهى من شاكر صبي الخواجة أسعد بعشرين جنيهاً، فقط لا غير.. لا غير!