بيشوى بولس

يومٌ آخر مُمِل

بقلم/ بيشوى بولس

‭”‬مرحباً،‭ ‬ألا‭ ‬تعرفني؟‭ ‬إنني‭ ‬مشهور‭ ‬جداً‭. ‬بالتأكيد‭ ‬قد‭ ‬رأيتني‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬اليوتيوب‭ ‬و‭ ‬تطبيقات‭ ‬التواصل‭ ‬الإجتماعي،‭ ‬هذا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أمتلك‭ ‬حساباً‭ ‬واحداً‭ ‬عليها‭! ‬هل‭ ‬يبدو‭ ‬وجهي‭ ‬مألوفاً؟‭ ‬نعم‭ ‬أنا‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الأشقر‭ ‬ذو‭ ‬العينين‭ ‬الزرقاوين‭ ‬الذي‭ ‬يحرص‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬إلتقاط‭ ‬الصور‭ ‬معه، هل‭ ‬أبدو‭ ‬وسيماً؟‭ ‬لا‭ ‬أعلم لقد‭ ‬كففت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬المرآة‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭.‬

منذ‭ ‬أن‭ ‬تركتني‭ ‬‭”‬ماريا‭” ‬و‭ ‬قررت‭ ‬إكمال‭ ‬حياتها‭ ‬مع‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭. ‬حسناً‭ ‬فَعَلَت‭. ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬نتزوج‭ ‬وننجب‭ ‬أطفالاً،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فلا‭ ‬أحتمل‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدي‭ ‬أطفال‭ ‬أبداً‭!‬‭ ‬لا‭ ‬تتعجب،‭ ‬فبعد‭ ‬يوم‭ ‬عملى‭ ‬الطويل‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬أي‭ ‬أطفال‭!‬

ألم‭ ‬تعرفني‭ ‬بعد؟‭ ‬لن‭ ‬أحيرك‭ ‬كثيراً‭. ‬أنا‭ ‬‭”‬مارك‭ ‬سميث‭”‬‭ ‬مُشَغِّل‭ ‬لعبة‭ ‬التنين‭ ‬الطائر‭ ‬في‭ ‬‭”‬ملاهي‭ ‬نيويورك‭ ‬الصيفية‭”‬‭. ‬ماذا؟‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬لعبة‭ ‬التنين‭ ‬الطائر؟‭! ‬حسناً‭ ‬لا‭ ‬بأس،‭ ‬إنها‭ ‬لعبة‭ ‬سخيفة‭ ‬يركب‭ ‬فيها‭ ‬الأطفال‭ ‬عربات‭ ‬داخل‭ ‬هيكل‭ ‬يشبه‭ ‬التنين‭. ‬و‭ ‬بينما‭ ‬يرتفع‭ ‬هيكل‭ ‬التنين‭ ‬المعدني،‭ ‬ترتفع‭ ‬أصوات‭ ‬صرخات‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬إستمتاع‭. ‬لا‭ ‬تسألني،‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬لماذا‭ ‬يحب‭ ‬الأطفال‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬السمجة‭. ‬كما‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أيضاً‭ ‬لماذا‭ ‬تحرص‭ ‬كل‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬إلتقاط‭ ‬عشرات‭ ‬الصور‭ ‬لطفلها‭ ‬و‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬إبتسامة‭ ‬نصر‭ ‬بلهاء‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬إنتهاء‭ ‬اللعبة،‭ ‬و‭ ‬كأن‭ ‬إبنها‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬سالماً‭ ‬من‭ ‬رحلة‭ ‬إستكشافية‭ ‬إلى‭ ‬المريخ‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬تخرج‭ ‬للتو‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬‭”‬هارفارد‭”‬‭ ‬الشهيرة‭.‬

لكن‭ ‬المصيبة‭ ‬الكبرى‭ ‬هي‭ ‬الطوابير‭. ‬الطوابير‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭! ‬قبل‭ ‬عشرون‭ ‬عاماً‭ ‬و‭ ‬عند‭ ‬بداية‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬الملاهي‭ ‬كنت‭ ‬متحمساً‭ ‬جداً‭. ‬كنت‭ ‬أبتسم‭ ‬لكل‭ ‬طفل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يركب‭ ‬التنين‭. ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فها‭ ‬أنا‭ ‬أمسك‭ ‬ذراع‭ ‬التحكم‭ ‬بآلية‭ ‬و‭ ‬أحركه‭ ‬في‭ ‬ملل‭ ‬بالغ‭. ‬قديماً‭ ‬كنا‭ ‬نجوب‭ ‬الولايات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬و‭ ‬كان‭ ‬الأطفال‭ ‬ينتظرون‭ ‬قدومنا‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر‭. ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬و‭ ‬بسبب‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭. ‬هذا‭ ‬بالطبع‭ ‬دفعنا‭ ‬إلى‭ ‬الإستقرار‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬دائم‭ ‬بنيويورك‭ ‬حيث‭ ‬الشوارع‭ ‬المزدحمة‭ ‬و‭ ‬الإيجارات‭ ‬الباهظة‭. ‬ولأن‭ ‬الميزانية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تسمح،‭ ‬و‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬تعييني‭ ‬لأكون‭ ‬مسئولاً‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬تشغيل‭ ‬اللعبة،‭ ‬أصبحت‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬مسئولاً‭ ‬عن‭ ‬التشغيل‭ ‬و‭ ‬الصيانة‭ ‬و‭ ‬أيضاً‭ ‬التنظيف‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬بنفس‭ ‬المرتب‭ ‬الهزيل‭. ‬اليس‭ ‬هذا‭ ‬ظلماً؟

ثم‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬افهم‭ ‬فائدة‭ ‬هذا‭ ‬الزي‭ ‬القبيح‭ ‬الذي‭ ‬ألبسه‭. ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬فقط‭ ‬لأشغل‭ ‬اللعبة‭ ‬و‭ ‬لا‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إرتداء‭ ‬أي‭ ‬زي‭ ‬خاص‭. ‬لكنها‭ ‬السيدة‭ ‬‭”‬مارجريت‭”‬‭ ‬صاحبة‭ ‬الملاهي،‭ ‬سامحها‭ ‬الله

كانت‭ ‬صاحبة‭ ‬الفكرة‭ ‬الغبية‭ ‬بأن‭ ‬يرتدي‭ ‬مشغل‭ ‬كل‭ ‬لعبة‭ ‬زياً‭ ‬يتماشى‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬اللعبة‭ ‬بدافع‭ ‬التطوير‭! ‬و‭ ‬لعبتي‭ ‬هي‭ ‬قدري‭! ‬ولأن‭ ‬لعبتي‭ ‬هي‭ ‬التنين‭ ‬الطائر،‭ ‬لذلك‭ ‬فأنا‭ ‬مجبر‭ ‬على‭ ‬إرتداء‭ ‬قبعة‭ ‬ثقيلة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬رأس‭ ‬تنين‭ ‬و‭ ‬سروال‭ ‬أخضر‭ ‬كذيل‭ ‬طويل‭. ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬إرتداء‭ ‬قبعة‭ ‬و‭ ‬ذيل‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬نيويورك‭ ‬الحار‭!‬

بالطبع‭ ‬هناك‭ ‬ألعاب‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬لعبة‭ ‬التنين‭ ‬الطائر‭. ‬لكم‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬إلى‭ ‬الأطفال‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭. ‬كنت‭ ‬أدعوهم‭ ‬صراحة‭ ‬أن‭ ‬يتركوني‭ ‬لحالي‭ ‬و‭ ‬أن‭ ‬يذهبوا‭ ‬لتجربة‭ ‬لعبة‭ ‬السيارات‭ ‬المتصادمة‭ ‬أو‭ ‬الصاروخ‭ ‬النَّفَّاث‭. ‬لكن،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إقناع‭ ‬الذباب‭ ‬أن‭ ‬الزهور‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬القمامة‭! ‬هَا‭ ‬هُم‭ ‬يتجاهلون‭ ‬النصيحة‭ ‬و‭ ‬يصرون‭ ‬أن‭ ‬يأتوا‭ ‬إلىَّ‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭.‬

نعم‭ ‬كما‭ ‬ترى،‭ ‬أنا‭ ‬أكره‭ ‬حياتي،‭ ‬و‭ ‬أقول‭ ‬بصراحة‭ ‬أنا‭ ‬أحقد‭ ‬على‭ ‬زملائي‭ ‬أيضاً‭! ‬نعم‭ ‬أحقد‭ ‬عليهم‭. ‬هم‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬أفضل‭ ‬مني‭. ‬إن‭ ‬‭”‬سام‭” ‬مُشَغِّل‭ ‬لعبة‭ ‬القوارب‭ ‬العائمة‭ ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬هذه‭ ‬الأعداد‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الأهالي‭ ‬يخشون‭ ‬على‭ ‬ملابس‭ ‬أطفالهم‭ ‬من‭ ‬الإبتلال‭. ‬و‭ ‬‭”‬سيمونا‭”‬‭ ‬عند‭ ‬لعبة‭ ‬النيشان‭ ‬تأخذ‭ ‬بقشيشاً‭ ‬جيداً‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬سبعين‭ ‬دولاراً‭ ‬في‭ ‬اليوم‭. ‬حتى‭ ‬‭”‬كارل‭” ‬قاطع‭ ‬التذاكر‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬والده‭ ‬ولا‭ ‬يحتاج‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬أي‭ ‬إيجار‭. ‬كم‭ ‬هم‭ ‬محظوظون‭!‬‭”‬‭.‬

و‭ ‬تحت‭ ‬سماء‭ “‬نيويورك‭”‬‭ ‬الغائمة‭ ‬و‭ ‬في‭ ‬عطلة‭ ‬يوم‭ ‬الأحد،‭ ‬ذهب‭ ‬‭”‬سام‭”‬‭ ‬للمستشفى‭ ‬العام‭ ‬ليغسل‭ ‬كِلْيَته‭. ‬بينما‭ ‬طرقت‭ ‬‭”‬سيمونا‭”‬‭ ‬باب‭ ‬جارتها‭ ‬لتستلف‭ ‬منها‭ ‬خمسين‭ ‬دولاراً‭ ‬لتطعم‭ ‬أيتاماً‭ ‬أربعة؛‭ ‬هم‭ ‬أطفال‭ ‬أختها‭ ‬المتوفية‭. ‬أما‭ ‬‭”‬كارل‭”‬‭ ‬فظل‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬والده‭ ‬المصاب‭ ‬بالألزهايمر‭ ‬طوال‭ ‬النهار‭ ‬حتى‭ ‬وجده‭ ‬قبيل‭ ‬الغروب‭. ‬و‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬حوالي‭ ‬الألف‭ ‬شخص‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة‭ ‬عن‭ ‬فرصة‭ ‬عمل،‭ ‬أي‭ ‬عمل‭. ‬و‭ ‬ظل‭ ‬‭”‬مارك‭”‬‭ ‬نائماً‭ ‬على‭ ‬الأريكة‭ ‬يقلب‭ ‬قنوات‭ ‬التليفزيون‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بشيء.

فغداً‭ ‬ينتظره‭ ‬يوم‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭ … ‬يوم‭ ‬آخر‭ ‬ممل‭.‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى