بيشوى بولس

فرصة العمر (قصة قصيرة)

بقلم/ بيشوى بولس

كانت‭ ‬تَجُر‭ ‬قدميها‭ ‬جَرَّاً‭ ‬و‭ ‬هي‭ ‬ممسكة‭ ‬بكيس‭ ‬بلاستيكي‭ ‬متهرئ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تمييز‭ ‬لونه‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الإستخدام‭،‬ في‭ ‬تعب‭ ‬استندت‭ ‬الفتاة‭ ‬على‭ ‬حائط‭ ‬إحدى‭ ‬المنازل‭ ‬المتراصة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬يقطع‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬المزحمة‭. ‬و‭ ‬بصعوبة‭ ‬بالغة‭ ‬أخذت‭ ‬تقرأ‭ ‬لافتات‭ ‬المحال‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭:‬

‭” ‬عص‭.. ‬عصير‭ ‬الأمااانة‭.. ‬مكتبة‭ ‬ال‭..‬نج‭.. ‬النجاااح‭.. ‬لو‭ ‬أنني‭ ‬أكملت‭ ‬سنة‭ ‬رابعة‭ ‬لكنت‭ ‬استطعت‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬أسرع‭. ‬لكنه‭ ‬والدي،‭ ‬سامحه‭ ‬الله،‭ ‬الذي‭ ‬أصر‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬المدرسة‭ ‬لأذهب‭ ‬لمشغل‭ ‬الــ‭ ..‬‭”‬‭. ‬لمعت‭ ‬عيناها‭ ‬فجأة‭ ‬و‭ ‬قرأت‭ ‬بصوت‭ ‬أعلى‭: ‬‭”‬الخوا‭..‬جة‭ ..‬أبا‭..‬

أبـا‭ … ‬دير‭.. ‬نعم‭ …‬الخواجة‭ ‬أبادير‭.. ‬تصليح شراء،‭ ‬بيع‭ … ‬أخيراً‭”‬‭. ‬و‭ ‬زفرت‭ ‬في‭ ‬ارتياح‭.‬

تأهبت‭ ‬لدخول‭ ‬المحل‭ ‬بخطوات‭ ‬سريعة‭ ‬فأوقفها‭ ‬صبي‭ ‬الخواجة‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬قائلاً‭ ‬في‭ ‬حزم‭: ‬‭”‬إنها‭ ‬السابعة‭ ‬إلا‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭. ‬نحن‭ ‬نستعد‭ ‬للإغلاق‭. ‬بإمكانك‭ ‬العودة‭ ‬يوم‭ ‬الإثنين‭ ‬صباحاً‭. ‬مع‭ ‬السلامة‭”‬‭. ‬أجابته‭ ‬بتوسل‭: ‬‭”‬أرجوك‭. ‬إنني‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬كفر‭ ‬سلامة‭. ‬لقد‭ ‬قطعت‭ ‬مسافة‭ ‬طويلة‭ ‬جداً‭ ‬و‭ ‬لن‭ ‬استطيع‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬فأبي‭ ‬مريض‭ ‬و‭ ‬يحتاج‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬بجواره‭”‬‭.‬

لكن‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬رفض‭ ‬الصبي‭ ‬إدخالها‭ ‬بإصرار‭! ‬إنه‭ ‬يعرف‭ ‬جيداً‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفتيات‭ ‬الريفيات‭ ‬اللائي‭ ‬يأتين‭ ‬للخواجة‭ ‬على‭ ‬فترات‭ ‬متباعدة‭. ‬يعرف‭ ‬أنهن‭ ‬لا‭ ‬يستخدمن‭ ‬الذهب‭ ‬أبداً‭ ‬كَحُلِي‭ ‬للزينة‭ ‬إذ‭ ‬يعتبرنه‭ ‬قرشاً‭ ‬أبيضاً‭ ‬قد‭ ‬ينفع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬يوم‭ ‬أسود،‭ ‬فيبيعونه‭ ‬عندما‭ ‬يضيق‭ ‬الحال‭ ‬و‭ ‬يشترونه‭ ‬عندما‭ ‬تتوفر‭ ‬السيولة‭. ‬لكن،‭ ‬جميعهن‭ ‬بلا‭ ‬إستثناء‭ ‬ثرثارات،‭ ‬و‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخرجن‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحول‭ ‬قبل‭ ‬ساعة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬الفِصَال‭ ‬المُجْهِد‭. ‬و‭ ‬لأن‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬السبت‭ ‬و‭ ‬غداً‭ ‬عطلة‭. ‬لذا‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يضيع‭ ‬دقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬المزعجة‭. ‬إن‭ ‬أسخف‭ ‬الزبائن‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يأتون‭ ‬مبكراً‭ ‬جداً‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يصلون‭ ‬قبل‭ ‬الإغلاق‭ ‬مباشرة‭.‬‬

رفعت‭ ‬الفتاة‭ ‬صوتها‭ ‬و‭ ‬صرخت‭ ‬في‭ ‬غضب‭: ‬‭”‬إتركني،‭ ‬لن‭ ‬أرحل‭ ‬قبل‭ ‬مقابلة‭ ‬الخواجة‭”‬‭. ‬عندها‭ ‬خاف‭ ‬الصبي‭! ‬لقد‭ ‬ذَكَّرَه‭ ‬صراخها‭ ‬بتوبيخ‭ ‬أمه‭ ‬الدائم‭ ‬له،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الخواجة‭ ‬أبادير‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬المشادات‭ ‬أو‭ ‬الشوشرة‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬و‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يردد‭: ‬‭”‬الصائغ‭ ‬سُمْعَة‭!‬‭”‬‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬جعل‭ ‬الصبي‭ ‬يتراجع‭ ‬عن‭ ‬حدته‭ ‬و‭ ‬يجيب‭: ‬‭”‬الخواجة‭ ‬مسافر‭ ‬القاهرة‭ ‬ليشتري‭ ‬بضاعة‭. ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬الكل‭ ‬في‭ ‬الكل‭. ‬ماذا‭ ‬تريدين؟‭”‬‭. ‬قالت‭: ‬‭”‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أبيع‭ ‬عقداً،‭ ‬و‭ ‬لولا‭ ‬الحاجة‭ ‬المُرَّة‭ ‬ما‭ ‬بعته‭ ‬قط‭ ‬إذ‭  ‬يحمل‭ ‬رائحة‭ ‬أمي‭ ‬الغالية‭”‬‭. ‬قال‭ ‬الصبي‭ ‬بصبر‭ ‬نافذ‭: ‬‭”‬أريني‭ ‬إياه‭”‬‭. ‬فتحت‭ ‬الفتاة‭ ‬الكيس‭ ‬البلاستيكي‭ ‬و‭ ‬أخرجت‭ ‬قطعة‭ ‬فنية‭ ‬رائعة‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬الخالص‭ ‬ذات‭ ‬خمسة‭ ‬فصوص‭ ‬زرقاء‭ ‬لامعة‭!‬

لم‭ ‬يستطع‭ ‬الصبي‭ ‬أن‭ ‬يخفي‭ ‬لهفته‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الفرصة‭ ‬التي‭ ‬هبطت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬فسألها‭: ‬‭”‬بكم‭ ‬تريدين‭ ‬بيعه؟‭ ‬سأشتريه‭ ‬لنفسي.

فالخواجة‭ ‬يرفض‭ ‬شراء‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬بدون‭ ‬فاتورة‭”‬‭. ‬ثم‭ ‬ابتسم‭ ‬في‭ ‬خبث‭ ‬و‭ ‬أضاف‭: ‬‭”‬و‭ ‬أنت‭ ‬بالطبع‭ ‬ليس‭ ‬معك‭ ‬فاتورة‭. ‬أليس‭ ‬كذلك؟‭”‬‭.‬

لم‭ ‬يختلفا‭ ‬أبداً‭ ‬على‭ ‬السعر،‭ ‬و‭ ‬بعد‭ ‬وزن‭ ‬العقد،‭ ‬أخذه‭ ‬الصبي‭ ‬و‭ ‬أعطى‭ ‬الفتاة‭ ‬رزمتين‭ ‬ممتلئتين‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬النقدية أخذتهما‭ ‬و‭ ‬إختفت‭ ‬بسرعة‭ ‬وسط‭ ‬الزحام‭.‬

بعدها‭ ‬بساعة‭ ‬واحدة،‭ ‬و‭ ‬في‭ ‬الحافلة‭ ‬المتجهة‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬كفر‭ ‬الغوانم‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬قرية‭ ‬كفر‭ ‬سلامة،‭ ‬وضعت‭ ‬الفتاة‭ ‬يدها‭ ‬داخل‭ ‬الكيس‭ ‬البلاستيكي‭ ‬ذاته‭ ‬و‭ ‬أمسكت‭ ‬رزمة‭ ‬من‭ ‬الجنيهات‭ ‬و‭ ‬تحسستها‭ ‬في‭ ‬فخر‭. ‬ولم‭ ‬لا؟‭ ‬ألا‭ ‬يحق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تفتخر‭ ‬بذكائها؟‭. ‬لقد‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬خداع‭ ‬صبي‭ ‬الصائغ‭ ‬الأحمق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬الذهب‭ ‬الحقيقي‭ ‬و‭ ‬المزيف‭ ‬أو‭ ‬الفالصو‭ ‬كما‭ ‬تسميه‭. ‬ضحكت‭ ‬وهي‭ ‬تشكر‭ ‬في‭ ‬سِرِّهَا‭ ‬البائع‭ ‬المتجول‭ ‬الذي‭ ‬باعها‭ ‬ذلك‭ ‬العقد‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬الصيني‭ ‬الرخيص‭. ‬كم‭ ‬كان‭ ‬رخيصاً‭ ‬بالفعل‭! ‬ليس‭ ‬خسارة‭ ‬فيه‭ ‬العشرين‭ ‬جنيهاً‭ ‬التي‭ ‬دفعتها‭ ‬لشرائه‭.‬‭ ‬

و‭ ‬قرب‭ ‬منتصف‭ ‬نفس‭ ‬الليلة،‭ ‬و‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬إحدى‭ ‬العمارات‭ ‬السكنية‭ ‬القديمة،‭ ‬وضع‭ ‬سمير‭ ‬صبي‭ ‬الخواجة‭ ‬العقد‭ ‬الذهبي‭ ‬حول‭ ‬عنقه‭ ‬فَرِحَاً‭ ‬إذ‭ ‬إستطاع‭ ‬أخيراً‭ ‬أن‭ ‬يبرم‭ ‬أولى‭ ‬الصفقات‭ ‬الكبيرة‭ ‬لحسابه‭ ‬و‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬شهر‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬عند‭ ‬الخواجة‭. ‬و‭ ‬بعد‭ ‬بيع‭ ‬العقد‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬صَهْرَه‭ ‬لن‭ ‬يحتاج‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬عند‭ ‬الخواجة‭ ‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬بفضل‭ ‬عبقريته‭ ‬الفريدة‭ ‬و‭ ‬سذاجة‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬الريفية‭ ‬البلهاء‭ ‬التي‭ ‬باعته‭ ‬عقداً‭ ‬ثقيلاً‭ ‬ثميناً‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬قيمته‭ ‬مقابل‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الجنيهات‭ ‬المزورة‭ ‬التي‭ ‬إشتراها‭ ‬ليل‭ ‬أول‭ ‬أمس‭ ‬على‭ ‬المقهى‭ ‬من‭ ‬شاكر‭ ‬صبي‭ ‬الخواجة‭ ‬أسعد‭ ‬بعشرين‭ ‬جنيهاً،‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬غير‭.. ‬لا‭ ‬غير‭!‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى