** عندما رآها لأول مرة ؛ وقف أمامها مندهشاً متعجباً ومبهوراً. شدّته عيناها الملونتان اللامعتان؛ وأذهلته شفتاها الحمراوتان الممتلئتان المثيرتان وأعجبته وقفتها المليئة بكل الثقة بالنفس والكبرياء، وكأنها تقول لكل من ينظراليها ويراها : ها أنذا أمامك أنظر الىّ جيداً. تأملنى على مهل. هل رأيت من هى فى حلاوتى وجمالى من قبل؟!. خيّل اليه أنها تكلمه هو وحده دون غيره؛ فقال لنفسه : ليتها تكون لى؛ لا بدّ أن آخذها. سرح مع عينيها الى عالم من الأحلام الجميلة وشبه المستحيلة. تصوّر نفسه فارساً يذهب اليها على فرسه الأبيض الرشيق والسريع ليأخذها وراءه ويطير بها بعيداً؛ الى جنة الحب والسعادة المليئة بالأشجار والورود والخالية من العزول والحسود. أفاق من هذا الحلم المستحيل أن يتحقق؛ وهمس لنفسه ساخراً : أنا لا أملك فرساً أبيضاً رشيقاً؛ ولا حتى حماراً أسوداً وأعرجاً؟؟!. عاد يتخيّل نفسه راعياً للأغنام؛ يمسك فى يديه بناىٍ طويلٍ يعزف عليه لحناً شجياً ، بينما هى تسير الى جواره وقد راحت تغنى بصوتها الرخيم والجميل بعض الأغانى والمواويـــــل الشعبيــــــة والشـــــائــعـــة وقد انــــدفعـــــت أمامهما بعض الخــــراف والمعــــــزات الصغيـــــــرة… راح يمصمص شفتيه بأسى وحسرة وهو يراها تنظر اليه بعينيها الساحرتين. خيّل اليه أنها تغمز له بعينها قائلةً : أنا أعرفك جيداً؛ أنت لا تملك خرافاً ولا معزاتٍ، أنت لا تملك من كل هذه الدنيا الا هذا الجلباب الذى ترتديه ولا تستطيع أن تغيّره أو تشترى غيره الا كل بضعة أعوام. هزّ رأسه متأسياً وهمس لنفسه: معها كل الحق. حتى فى هذا العيد الذى نحتفل به فى هذه الأيام؛ لم أمتلك نقوداً تكفى لشراء جلباب جديد يحمينى من برد الليالى الشتويـــــة، والــــذى لا يســـتـــطيـــــع هذا الجلباب القـديـم والمهتــــرء أن يحمينى منه. لكن العين بصيرة واليد قصيرة، وما عندى حيلة ... كان منذ قليل قد وقف أمام هذه الأرجوحة التى يركبها الأطفال والتى كانت تعلو وتطير بهم فى الهواء، وهم يتصايحون ويصرخون فرحين وخائفين فى نفس الوقت ولكنهم يهتفون كلما ارتفعت أو انخفضت بهم صارخين قائـــلــيــــن: هيه...هيه...مرددين هتافهم هذا بنغمة موسيقية مميزة، يخيّل لمن يسمعها وكأنها تصدر عنهم وعن حركة الأرجوحة معاً. لكنه الآن بعد أن رآها واقفة تبتسم له، نسى الأرجوحة والدرّاجة والأطفال والدنيا كلها، ولم يـعـــــد يتمـــنــى سواهــــــا، وأصبح حصوله عليها عيــــده الحقيقى وأمله الوحيد وحيـــــاته كلها.... مد يده فى جيب جلبابه الرث النظيف الذى غسله وكواه له بمناسبة العيد عم (حسنين) الكواء الوحيد بقريتهم الصغيرة. أخرج منه كل القروش القليلة التى كانت به؛ ممسكاً بها فى حرصٍ شديد. تقدّم مخترقاً الزحام حتى وصل الى تلك المنصّة العالية التى رصّت ووقفت عليها كل أصناف الحلوى والعرائس. قدّم قروشه للرجل الضخم الواقف خلف المنصّة وهو يشير له بيده الأخرى للعروسة التى يريدها. أخذ الرجل الضخم قروشه وعدّها بسرعة ثم قال له بصوت متحشرج وقوى: هذه ثمانية قروش فقط، وثمن هذه العروسة عشرة قروش...فهات قرشين آخرين، أو أعطيك بقروشك بعض أقراص الحمصية والسمسمية … نظر الصغير الى الرجل الضخم مستعطفاً ومسترحماً وقد اغر ورقت عيناه بالدموع، ولكن الرجل انتبه للبيع للأطفال الآخرين المتزاحمين عليه ولم ينتبه لاستراحمه ولا لدموعه. بعد بعض الوقت أعاد الرجل عليه نفس الكلمات بطريقة آلية. نظر الصغير لعروسته بأسى، وهمس لها معتذراً: آسف جداً ياحبيبتى؛ رفض الرجل الضخم اعطاءك لى لأن نقودى لا تكفيه وعندما تتوافر معى النقود الكافية سآتى لآخذك معى اذا كنت تنتظريننى هنا، وحتى يحدث ذلك؛ لا بأس الآن ببعض أقراص الحمصية والسمسمية. وسكت قليلا ثم طلب من الرجل أن يعطيه بعض الحمصية والسمسمية وقطعة ملبن حمراء اذا أمكن. ناوله البائع لفافة بها ما طلبه. ذهب بلفافته الى الناحية الأخرى المقابلة لمنصّة الحلوى والعرائس التى توسطتهن عرسته الجميلة. فتح لفافته وأخرج منها قطعة الملبن الحمراء وقضم منها قضمة ملأ بها فمه الصغير. نظر الى عروسته مرة أخرى؛ وهز رأسه فى أسى وأسف. مضى منصرفاً وقد أحس بالمرارة تملأ فمه وقلبه ومشاعره كلها …